بين النثر والشعر
يسجل للنثر العربي، خصوصاً في العصرين الأموي والعباسي، أنه كان مناهضاً للسلطة المُفسدة والفاسدة، على العكس تماماً من الجزء الأكبر من شعر تلك المرحلة،أ الذي تخدّر وتخدّرت بواعثه، فأغفل أسئلة التوتر الحيوي للوجود، وتورط في رسم الممدوح بكلمات زائفة، إلى أن بلغ شأواً عظيماً، وبانت مآثره وعلت سماته في القصيدة، وسقط هو في فخاخأ الغرض، وأثار أكثر من شبهة لم يتم درؤها. أولأن السلطة استقواء وإقصاء وحماسةأ تفتك بنفوس الشعوب المستذلة، ولأنها متورطة أصلاً فيأ السعي المحموم والدائم لتوطيد مكانتها، تجنبت النضج العقلي الموجود في النثر، وحُيدتأ مكانته لأنه الأقدر على توثيق الاتصال بالفكر وعلومه ومناهجه، ولأنه المساهم الأكبر في الكتابة التاريخية، وأطلقت ألسنة الاسترزاقأ فنتج عن هذا الإطلاق شعر المناخات المريضة الذي ضاع كثيراً في عبارة «لزوم ما لا يلزم» وأبعادها الفائضة.
بغض النظر عن المفاضلة بين ما كان يُكتب شعراً وما كان يُكتب نثراً في تلك الحقبة، إلا أن شعرية المديح انساقت الى استعمال الأوهام التي توحي بها الرغبات، وظل ما كتبه ناثرون كثرٌ من أمثال عبدالحميد الكاتب والجاحظ وابن العميد والصولي وابن قتيبة وأبي حيان التوحيدي والحسن بن سهل وعمرو بن مسعدة وسهل بن هارون والحسن بن وهب وبديع الزمان الهمداني والخوارزمي والثعالبي، وسواهم ممن تفوتُني الآن أسماؤهم،أ في الظل تماماً.
ومن هنا، لابد للنقد العربي الحديث من العودة إلى بدايات النثر العربي، ورصد جرأته في الوقت الذي كان معظم الشعراء العرب يغطون في لعنة الاسترزاق ويكتبون قصائد يسمعهاأ المرء، فيحسأ بالكذب كله، وهو يتجهمر في جنباتها، ويعاين تلك الكتابات النثرية التي غيبت عن مشهد كان يقسّم بين ثلاثة محاور: شعراء نشأوا وهم يشعرون بالألفة مع النظام السائد، فجاءت أشعارهم وهي تعكس الثقة الرسمية بنفسها،أ وشعراء تم حصرهم بجملة من القضايا الأخلاقية والدينية، وكتّاب نثر كتبوا في علم الكلام والأدب والسياسة والتاريخ والأخلاق والنبات والحيوان والصناعة والنساء، ولم يرتهن وعيهم لإرضاء الممدوح، فظلت رؤيتهم وهواجسهم الإبداعية خارج التداخل الملتبس رغم أن ثلة منهمأ كانت من الموالين، ولكنّ ولاءهم هذا لم يدخل المتن المكتوب، إلا في ما ندر، وكان لقاؤهم مع السلطة لقاء رعية، لا لقاء مديح يستنزف نصوصهم، حتى إن منهم من كان يبيع السمك والخبز في النهار ويلوذ إلى إبداعه في الليل، هذا إذا ما لاذ حتماً بدكاكين الورّاقين.
ومن هنا، كان الاختلاف بيّناً وكان اتصال النثر مع الثقافات غير العربية، كالفارسية واليونانية والهندية، أوسع، حتى إن بعض رواده قد تمنهجوا على النقد القائم على الشك، وظهر هذا النقد في أعمالهم، في ما ظل شعراء تلك المرحلة الذين أسسوا للشعرية الغرض بعيدين كل البعد عنأ البيئة الطبيعية والحكمة والتأمل والتعبير عن القضايا الوجودية والكونية، وكانت غايتهم تدور في محور السلطة. وبناء على ما تقدم،أ لابد من دراسة نقدية تقف على واقع الشعر الحقيقي وأزمته الكامنة بالزهو، وتعيد الاعتبار للنثر العربي الذي فتح فرجار البحث عن المعنى، وقدم عوالم معرفية لم تكن موجودة عند العرب وتاريخهم الغارق في المشافهة.