مشهد لافت
ثمة مشهد شعري يمور بالحداثة كماً ونوعاً، ليس في الحواضر الإبداعية المعروفة كما هي العادة، بل في السعودية وفي تلافيف ثقافتها التي تتكون من شعر ونقد ثقافي وسرد وتشكيل وكتابة أسفار يقودها أدباء من الشباب والمخضرمين معاً. من يطل بعين راصدة لابد أن يرى هذا المشهد وهو يتمظهر بوجود مبدعين يوقعون رؤاهم كل يوم، من خلال اقتراح جمالي لافت للمرء على التوقف في جنباته، فيقرأ ويتيقن من حرارته، على الرغم مما يقال عن التأزم الذي تعيشه الحالة الثقافية السعودية في محنة التأرجح بين الانتماء إلى الهوية الإسلامية أو الهوية القومية أو فكرة الانتساب للهوية الحداثية التي تعيش متفتحة في الأدب بما تقدمه، على الرغم من مضايقات الفكر الرافض للعلوم والمجرم لها ولهم على حد سواء.
بيد أن هذا المشهد، ومع كل ما فيه من إصدارات مغدورة وأزمات، لايزال يتحرك ويتقاطع مع مشاهد أخرى عربية بدأت تدخل في سبات العجز، وتعلن عن توقفها في منتصف الطريق أو اللجوء إلى الاتكاء على ماض كان يحيط ببعض الأسماء الراحلة أو الساطعة في وسائل الإعلام، ثم تلوذ بالانكفاء على الذات والانشغال بمطالبها.
لا نريد أن نخوض هنا في مفاضلة بين المشاهد الثقافية، بقدر ما نريد أن نرمي حجراً ثقيلاً في بركة الركود التي أخذت تتسع وتشل عصب الحياة الفكرية والأدبية في بلدان عربية بدأت تعيش حالة من التردي الثقافي، إلى الحد الذي وصلت فيه إلى استبدال المناخ الحقيقي للإبداع بمناخات صبيانية بدأت تكتب قصيدة النثر بالعامية، وتقدم سيرتها الشخصية مصورة على كل السير، هذا إذا لم تغرق أصلاً في افتعال المعارك الثقافية التي تستحضر عنوة من بدايات القرن الماضي وبالعبارات والعناوين نفسها.
ولأن النص السعودي يبرئ ناقده من النفاق، لأنه ينطوي على بلاغة في المعنى، تصبح تهمة التزلف الأعمى بعيدة، ويصير وجوباً أن نذكر انفتاحه على التيارات الشعرية العربية والعالمية، ويجوز أن نلفت إلى مكوناته البينة، على الرغم من الممنوع الملتبس دينياً واجتماعياً، ويحق له ولنا أن نؤشر إلى رواياته التي بدأت تؤسس لنقد التاريخ الاجتماعي، وندافع عن وصفها بالتلاعب على التابو الجنسي والديني، لأنها الأكثر شعبية ومبيعاً في العالم العربي، كما يحق لنا أن ندافع عن المدونة النقدية التي تتجه نحو النقد الثقافي، متجاوزة الوقفات الانطباعية المجزأة التي يقوم بها كتاب، تتبرأ منهم كتاباتهم القائمة على نزعة ضاجة بالتباهي والاستعراض المرضي للمدارس النقدية التي ماتت حتى في بلد المنشأ.
ربما يعود السبب الكامن وراء توهج المشهد السعودي إلى أن إصداراته الإبداعية بقيت بعيدة عن دعم المؤسستين الرسمية والشعبية، وربما يعود إلى ثقافة الأندية العاملة والمفعلة هناك. وفي الحالتين، نجد أن هناك نصاً سعودياً يعتني بالجماليات والإغواء اللغوي، إضافة إلى مناخ متأهب لفتح السجالات الفكرية، ومصرّ على المجازفة بالفن التشكيلي بعد أن كان الأسوأ يكمن في عدم وجوده وليس في وجوده، وكذلك السينما التي يتم التجريب فيها الآن ببطء. ومن هنا، لابد من احترام هذا المنجز، ومن يعتقد بخلاف هذا الاحترام، فلينظر ملياً إلى العديد من التفاعلات الثقافية، ويترك العين لكي تعاين وترى.