أبواب
كيمياء المدن
تبدو المدن عبر مفاصلها التاريخية، وبكل ما تحمله في أحشائها العمرانية وأزقتها وشوارعها وميادينها ومقاهيها من أمم وشعوب كأنها تنهض في لحظة معينة كي تستحث كاتبها ومبدعها لكي يؤثث حضورها بالكتابة، وبالأعمال الإبداعية سواء كانت شعراً أم قصة أم رواية. والحال أن مدنأً كثيرة أكدت حضورها الكتابي في غير عمل إبداعي، وبدت وهي محبرّة بالقوى الإبداعية، هي الأبهى والأجمل، بل هي الداعية الملحّة كي يقبل عليها الناس ويتأكدوا من هذه الجمالية الكتابية التي ولدت فيها من جديد. وليس من باب المصادفة أن تتحرش بعض المدن تاريخياً بالكتّاب لتجعلهم يهجونها ويتهجموا على الأسمنت المسلح الذي يحرسها. وجميعنا قرأ ما كتبه في وقت مبكر الشاعر الإسباني «لوركا» عن البشاعة العمرانية القاتلة لروح الشاعر في مدينة ناطحات السحاب نيويورك، وتبع لوركا شعراء عرب جسدوا مقتهم لمدينة نيويورك وبشاعة عمرانها التي تصادر الروح في قصائد للشاعر «أدونيس» وقصائد الشاعر سعدي يوسف.
لكن بعض المدن تظل كالأنثى المشتهاة التي تجدد حضورها البهي والجميل عند كل مبدع مثل مدينة النور باريس التي ما تركت مبدعاً حطّ في رحالها إلا جعلته يكتبها بحميمية خاصة تختلف في كل مرة عن الأخرى. فباريس سارتر تختلف جمالياً عن باريس هوجو، وهي ذاتها التي تختلف عن باريس ميلر، وباريس بودلير وباريس مارغو يوسا، أو حتى باريس رفاعة الطهطاوي.
وهكذا تبدو المدن وهي تعجن شخوصها وتمنحهم أوكسجينها وتضخ في عروقهم صعلكتها الخاصة، كأنها الوحي المثير لمخيال المبدع وتهييجه باتجاه الذهاب نحو أرشفتها وحراستها بالعمل الإبداعي الذي يخلدها.
وعربياً استطاعت بعض المدن العربية تاريخياً أن تؤكد حضورها المبدع في التاريخ الكتابي العربي. فمن منّا يستطيع إهمال الكد الإبداعي للروائي المصري الراحل نجيب محفوظ وهو يخلد حواري القاهرة الثلاث في ثلاثيته المشهورة «بين القصرين، والسكرية، وباب الشوق»؟ أو من يستطيع أن يتجاوز ما كتبه الروائي البريطاني «لورانس داريل» في روايته ذائعة الصيت «رباعيات الاسكندرية»، أو القصائد التي خلد بها الشاعر اليوناني «كفافيس» مدينة الاسكندرية وحواريها؟
وجميعنا يذكر القصائد التي أفرزها كتاب وشعراء مثل الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش عن بيروت، وقصائد الشاعر الراحل نزار قباني عن بيروت أيضاً. وحديثاً أصدر الشاعر اللبناني شوقي بزيع عن دار الفارابي كتابه «بيروت في قصائد الشعر العربي»، وكيف استطاع الشاعر بزيع أن يرصد القصائد العظيمة التي قالها الشعراء عن بيروت منذ آلاف السنين حتى وقتنا الحاضر هذا. ونحن في هذا المطرح النقدي لا نستطيع أن نتجاوز ما كتبه الشعراء عبر التاريخ عن العاصمة العراقية بغداد، وكيف تشكلت جمالياً ودرامياً في نصوصهم الى درجة البكاء والنحيب.
لكن اللافت للانتباه في هذا المقام أن بعض العواصم العربية التي مازالت طازجة تاريخياً تبدو كأنها هاربة من الكتابة والتشخيص على الرغم من امتلاكها كل الشروط التأثيثية للقصيدة، أو للرواية وذلك لما تمتلكه من خاصية سكانية محرشة للكتابة والبوح. فعواصم عربية مثل الرياض السعودية وأبوظبي ودبي الإماراتيتين، وبكل ما تحمله هذه المدن من إمكانات عمرانية وتنوعات سكانية من شتى أصول ومنابت الأرض قادرة على ان تكون هي المكان الأمثل للكتابة الإبداعية.
لعلها كيمياء المدن هي التي تفعل فعلتها في المبدع وتسوقه مخفوراً كي يكتب عنها ويؤرشفها إبداعياً وتاريخياً.
ونظل في الانتظار!
khaleilq@yahoo.com