داء اسمه «واو»
نسافر من مكان إلى آخر، ونستمتع عندما نختار المكان بعناية، وبمجرد العودة، نبدأ في سرد الحكايا المفصلة عن مشاهداتنا السياحية التي مررنا بها، ثم نمارس عادتنا السيئة القديمة في توزيع الهدايا التي غالباً ما نكتشف أن بلادنا استوردتها قبل أن نحضرها للأقارب والأحباب.
ما يلفت الانتباه هو حديث الكثير منا عن دقة الأنظمة في البلد السياحي الذي توجهوا إليه، وسرعة تأقلمهم مع تلك الأنظمة في أيام عدة، فيما ترتسم على وجوههم المفاجأة لتلك الدقة وذلك التقدم. في المقابل، لا يشعرون بأي حرج في أن يتخطوا تلك الأنظمة في موطنهم وبسهولة، بل يسخرون منها عند مقارنتها بالبلد الذي قضوا إجازتهم فيه.
الطريف في الأمر أنهم يفعلون ذلك من دون وعي أو قصد أو تعمد الإساءة لموطنهم، ولكن هي الحقيقة يرويها كل منهم بتجرد وواقعية، وبعيداً عن أي ضغوط أو تصنّع لزملائهم المقربين على السليقة وبتلقائية.
بالنسبة لي، وأنا أستمع إلى أولئك المهووسين بدقة الأنظمة في ذلك المجتمع الذي ساحوا فيه، والسلوك الحضاري لتلك الشعوب، أعذر جهلهم، لأن المسألة كلها لا تعتمد على جهود الحكومات والقوانين فقط، بل تتصل اتصالاً وثيقاً بمدى وعي الإنسان وتحضره، وفي حالة كهذه، لا يكون تطبيق النظام بحرفنة هو الفيصل، بل احترام الناس للقانون من عدمه. أما عن الجهود المبذولة من الدولة فهم يتناسون الإدارة السليمة للوطن من الداخل، ويتناسون أن التقيد بالنظام تلزمه رقابة حقيقية من الدولة. وأحاول أن أوصل لهم الاعتقاد الذي يلازمني دائماً عند عقد مثل تلك المقارنات بين العربي والغربي، بأن ما يميز كلاً منهم ويفضله هو مستوى تطبيق النظام في كل بلد، سواء عربي أو غربي.
في مجتمعاتنا العربية كل شيء جائز؛ فقد تكون نائماً في المنزل، ومن دون أن تشعر، تصبح أحد الوزراء، أو تكون قائداً لأكبر المنشآت النفطية.. وقد تكون موظفاً تجمع «النقطة» في أحد الملاهي الليلية، على الرغم من كونك تحمل أفضل الشهادات العلمية التي لم تعد تسمن أو تغني من جوع. لدينا، ليس مهماً ماذا تعمل، المهم أن ترضى رغماً عنك بنصيبك حتى لا تصبح عاطلاً عن العمل لسنوات طويلة من دون أن يشعر أحد بك، وقد تتعرض للسخرية من أقرانك ومن أسرتك، لأن حظك لم يسعفك في الحصول على وظيفة تستر بها الحال، وتكمل من خلالها واجباتك الدنيوية المفترضة، لأن الوظائف محجوزة لغيرك من أصحاب الواسطة. أعتقد أن الوقت مناسب لسن قانون لمحاربة الواسطة في المؤسسات الحكومية، ومحاربة الإهمال في إيجاد الوظائف المناسبة لأبناء الوطن، ولا أغالي إذا طالبت بعقوبات رادعة قد تصل إلى السجن ،مثلاً، لأي مسؤول متكاسل، أو فرض غرامة ما تمنعه من تكرار فعلته، بل دفع تعويض مالي كبير للمحروم من فرصة الحصول على الوظيفة. ولدي إيمان عميق بأن البطالة من الأسباب الرئيسة للانحراف وللأمراض النفسية، فمن يعرف طعم «القعدة» في المنزل بعد أن يشارف على العقد الثالث وهو لايزال يأخذ مصروفه من والده أو والدته، مثله مثل الصغار عند ذهابهم إلى المدرسة، ثم يشاهد ابن الجيران الذي يتساوى معه ـ وربما يكون أقل منه ـ في السن ومستوى التعليم وهو يعود من عمله، ليصطحب أسرته، فيما هو ملازم باب بيته لا يملك حتى وسيلة مواصلات؛ سوف يشعر حتماً بالغبن والظلم، وبعض الظلم عاقبته وخيمة، كما تقول لغتنا العربية حفظها الله، وكل ذلك يمكن تلافيه بقانون واحد يقول: لا للواسطة!