المهمّشون في الأدب الجديد
(وا أسفاه، لم يعد ثمة غجر يصعدون الجبل)، ذلك ما قاله الشاعر العظيم لوركا قبل عقود عدة، وهو قول لا يأسف لغياب منظر الغجر وملابسهم وما شابه ذلك، مقدار ما يأسف لغياب قيمة جوهرية في الحياة، مثّلها الغجر في بساطة ومحبة، وهي قيمة الحرية.
وبالقدر نفسه، يمكن القول الآن: وا أسفاه، لم يعد ثمة مهمشون في الرواية العربية الجديدة، وليس هذا أسفاً لغياب الملابس الرثة ومشاهد الفقر والعوز والذل والمسكنة، بمقدار ما هو أسف لتغييب، أو لتجاهل خزان التغيير الرئيس في المجتمعات، ونعني الطبقات المسحوقة والمهمشة موضوعياً.
هذا الغياب للمهمشين، يعوضه حضور طاغٍ للمثقفين، لا كذوات، بل كموضوعات، بكل ما يتعلق بالمثقفين من سيكولوجيا وعادات وأفكار ومفاهيم وتقاليد، كثيراً ما تكون متعلقة بالعزلة والقلق الوجودي.
وفي قراءة الظاهرة، نرى أن تكسّر الطبقة الوسطى في المجتمعات العربية، وانقسام هذه المجتمعات عمودياً ما بين طبقة عليا وأخرى دنيا، جعل من شرائح المثقفين والكتاب، الذين خرجوا من هذه الطبقة المتكسرة، غير قادرين على الانخراط في الطبقة الدنيا، تماماً كعجزهم عن اختراق حدود الطبقة العليا، الأمر الذي رتب لهذه الشريحة بعض مواصفات الطبقة، وإنْ لم تكتمل بعد تماماً.
المهم هنا هو أن سمات الطبقة التي أخذت تتبلور في هذه الشريحة، شيّدت جداراً ثقافياً بين الكتّاب وأبناء الطبقة الدنيا المهمشين، فغاب هؤلاء عن الأعمال الروائية الجديدة، وتم سدّ الفراغ بالسير الذاتية، وتحويل الذات الكاتبة إلى موضوع روائي.
وبالذهاب بعيداً في قراءة الظاهرة، فإننا نود الإشارة إلى أن موضوع المهمشين وحضورهم وطريقة تقديمهم، كلها تحتاج إلى فهم عميق لجدل الثقافة المهمشة والثقافة المهيمنة، وهو أمر ليس باليسير على كثير من الروائيين، خصوصاً أولئك الذين لا يبدون استعداداً لفهم حركة التاريخ، والصراعات القائمة في المجتمعات التي تبدو متجانسة، والتحولات التي يمكن أن تحدث في هذه المجتمعات بدافع هذا الجدل.
فثمة الكثير من الروائيين الذين يعتقدون بديمومة هيمنة ثقافة ما في التراتبية الثقافية، وهؤلاء لا يرون الحراك الداخلي العميق في الثقافة الشعبية المهمشة. وهذا الحراك، إضافة إلى عوامل داخلية وخارجية أيضاً، كثيراً ما يتيح الفرصة لصعود الثقافة المهمشة، ولدينا الكثير من الشواهد التي تؤيد ذلك. فقبل عقود قليلة فقط، كانت المرأة في كثير من الحواضن الاجتماعية العربية، محصورة ككيان وثقافة في هامش الرجل الذي يملك وحده مفتاح الهامش ومقاييسه، ولكن الحراك الاجتماعي في هذه الحواضن، أفسح في المجال لظهور المرأة العربية ككيان يتمتع بحرية نسبية، أهلتها لخوض بحر الكتابة، بل التجرؤ على الغوص في موضوعات لم يجرؤ الكثير من الكتاب على ملامستها.
نحن إذاً أمام معضلتين أساسيتين، الأولى: حدوث قطيعة موضوعية بين الكاتب والطبقات المهمشة. والثانية: حدوث قطيعة معرفية بين الكاتب وهذه الطبقة، وهاتان المعضلتان شكّلتا سبباً رئيساً لغياب المهمشين، وهو ما لن يظل كذلك بالطبع، لأن الكتّاب العرب سيكتشفون آجلاً أو عاجلاً أن هؤلاء المهمشين يشكلون ثقلاً أساسياً في المجتمع، لا تستطيع الأعمال الروائية أن تستقيم من دونه.