«زارا» و«ماكدونالدز»
تبدو المدن الكبيرة نسخاً تتكرر إلا من بعض الألوان والوجوه وتفاصيل أخرى لاتزال تقاوم عوامل التعرية المعولمة، فأينما تيمم وجهك فستجد الزجاج مستندا إلى الفولاذ في عناق مع السحاب، وفي كل شارع سيستقبلك واحد من مطاعم «ماكدونالدز» التي تلف خصر العالم بسلسلة تزداد التفافا، على الرغم من كثرة الكلام عن الأزمة المالية، وفي كل حاضرة سيكون «ستار باكس» يلوّح لك داعيا إلى تناول كوب من القهوة صار بحساب ضيافة العولمة أكثر سعرا من وجبة كباب أو صحن «مندي» يملأ وعاء البطن ويغني من جوع. أما التسوق فقد صار داخل صناديق عملاقة تسمى مراكز تجارية أو «مول»، قد تختلف فيها بعض تفاصيل البناء والتوزيع ولكنها تجتمع كلها في «زارا» و«مذركير» و«نكست» و«مانغو» و«روديو درايف»، وجميع الإخوة الأعداء. أقمت أو رحلت فإن هذه المتاجر هي القاسم المشترك الذي سيقابلك في كل مول أو مركز تجاري، إلا إذا قررت أن تكون سائحا من ذلك النوع القديم ورحت تنبش في «سكيك» المدنية وقيعانها بحثا عن سوق شعبية.
بحساب العولمة ومخرجاتها لم يعد العالم قرية كما كان يقال، لأن القرية الواحدة قد تكون فيها أحياء متمايزة، وشوارع مختلفة، وعائلات غير متناسبة. وقد يكون فيها سهل وتل وساحل، فلا يجور شكل على آخر، ولا يطغى نوع على الثاني، ولا تغيب صورة بقية الصور. في ميزان العولمة ضاقت الحدقة حتى لم تعد تحتمل غير صورة واحدة في معظم الأشياء، ليكون ذلك على حساب التنوع الذي طالما أثرى الحضارة البشرية، وعلى حساب الاختلاف الذي هو ملح المدنية.
المهمشون هم وحدهم السالمون حتى الآن من ذلك الاستنساخ البشع الذي فرضته العولمة، لا بقرار منهم ولا على حين غفلة من آلة العولمة الرأسمالية، وإنما لأنهم لايزالون خارج نطاق دراسات الجدوى التي تضمن الأرباح، بينما هم في صلب اهتمام أرباب العولمة كأراض وثروات ومصادر لرفد صناعة الاستنساخ في الأماكن ذات الجدوى العالمية.