كل جمعة
فتاوى الاختلاط
لا حدود لتطرف ظاهرة الإفتاء الديني في العالم العربي، فهي خارجة عن أية اعتبارات ثقافية أو حضارية، ومحروسة بتواطؤ رسمي من بعض الحكومات العربية التي تغض الطرف عن فوضى من الجهالات، بلغت حد التحريض المباشر والمعلن على قتل كل من يبيح الاختلاط، في خطاب شديد الكراهية للمرأة، والإنسان، والحياة.
فلا يكاد الجدل ينتهي عند فتوى تحريمية مضادة للحياة والعصر، إلا وتذيع فضائية عربية فتوى أشدّ ظلاماً منها، من نوع تحريم الاختلاط بين الرجال والنساء في المسجد الحرام، واقتراح هدمه، وبنائه مجدداً، بما يُتيح عزلاً تاماً بين الجنسين، وذلك لإغلاق الجدل نهائياً على من يحاجج قياساً بأن الاختلاط مسموح في المسجد، فلا يجوز أن يكون محرماً خارجه.
صاحب هذه الفتوى يدعى يوسف الأحمد، وهو ينتمي إلى طائفة من التحريميين السلفيين الذين يستهلكون الفتاوى في سياق من الاستقواء على المجتمع، وعلى الدين نفسه. وهو يمارس هذه الوظيفة منذ سنوات طويلة، ولا يعترف بالنقاش الفقهي الذي تصدى له دعاة معتدلون، ذكّروه بأن تحريم الاختلاط في الطواف والسعي بدعة، تخالف مصادر الشريعة الأساسية.
قبل ذلك، كانت الفتوى تتواصل حول هذه القضية، ووجد أحدهم أنها تحتاج إلى حسم نهائي، فأصدر فتوى تجيز قتل كل من يبيح الاختلاط في العمل والتعليم، ووجد تأييداً واسعاً من «علماء التحريم» الذين يجدون أشكالاً متعددة من الدعم من قبل كثير من الحكومات العربية، أشده وضوحاً فتح المنابر لفتاواهم، وترك الساحات لهم، يمارسون فيها احتكاراً فكرياً ضارياً، لا يقبل أي نوع من أنواع المنافسة، في حين يشتد التضييق الرسمي على الحريات العامة، وتحديداً حرية التعبير، بما يوفر مناخاً ملائماً لنمو التطرف والمغالاة في فهم الدين، ويوفر أيضاً تربة صالحة للتكفيريين الذين نجحوا في رعاية التنظيمات الإرهابية، الأشد خطراً على حياة الناس ومستقبلهم من الاختلاط في مسجد أو جامعة أو مكان عمل.
الفتاوى ضد الاختلاط قديمة، لكنها باتت أكثر تركيزاً في السنوات الأخيرة، وتزامنت مع تردي حال الأمة، وانتكاساتها الحضارية المتتالية، ووجد الإعلام الغربي فيها شواهد على ذهنية تنتج التعصب والانغلاق، مثلما استطاع بفضلها أن يقيس مستوى العداء الذي يُضمره دعاة التحريم للمجتمعات العربية، قبل الأميركية والأوروبية، بكل قيمها وأفكارها. فمن يُبح قتل من يوافق على الاختلاط فإنه لا يتردد في تكفير الآخرين، وصياغة فتوى للموت الجماعي في طائرة أو قطار.
ولا ننسى أن أحد أولئك التحريميين أفتى قبل سنوات بقتل المسؤولين عن القنوات الفضائية التي تبث الأغاني والموسيقى، ما يعني أن من حق أي شاب يائس أن يحمل سلاحاً ويقتل الناس، ولا تثريب عليه، مادام هناك من هيّأ له غطاء شرعياً، بعدما قرر أنه يمتلك الصواب وحده، وأنه من يقرر الحلال من الحرام للناس. والكارثة أن مثل هذا النوع المعتم من الفتاوى لا يكتفي بالموقف، وإنما يقرر كيفية التعامل معه، بفعل محدد ووحيد هو الموت.