أبواب
أساطير في متحف
يتألف بناء متحف السينما في برلين من ثلاثة أدوار كبيرة متصلة، تُزين جدرانها لوحات وبوسترات ومعارض ومنحوتات وشرائح ملونة وشاشات عرض وأجهزة فيديو، ويضم المتحف 13 قاعة، تخصص كل قاعة منها، بالدرجة الأولى، لمرحلة سينمائية كاملة، لكن خصصت من بينها قاعتان لفيلمين: «مقصورة الدكتور غاليغاري/1919» لروبيرت فينه و«متروبوليس/1927» لفريتز لانغ، وهما فيلمان شكلا علامة بارزة، ليس فقط في تاريخ السينما الألمانية، إنما في تاريخ السينما العالمية. كذلك خصصت قاعتان لفنانتين نجمتين: ليني ريفنشتال، مخرجة الفيلمين النازيين «الاولمبياد» و«انتصار الإرادة»، ومارلين ديتريش، نجمة فيلم «الملاك الأزرق» التي رحلت، بعد شهرتها، إلى أميركا وساهمت في مناهضة النازية.
أصبح فيلم «غاليغاري» أسطورة تاريخية، أما متروبوليس، فإنه يعود مرة أخرى، كأسطورة معاصرة، ليشاهدها عشاق السينما في الصالات العالمية، في نسخة كاملة ومرممة، كما سبق وأخرجها لانغ قبل 88 عاماً.
لماذا غاليغاري؟
كان الفيلم الألماني في الفترة التي سبقت مجيء هتلر إلى السلطة أشبه بمسرح أحداث صراعات داخلية، تحكم فيها تيار من أفلام مناهضة للدكتاتورية وتيار أقوى، خدم الدكتاتورية وتجاهل الإشارة إلى المشكلات الاجتماعية.
كانت التعبيرية تسعى منذ نحو سنة 1910 إلى تطوير جميع مبادئ الفن، واستطاعت، بفضل طريقة طرح مطالبها العنيفة، أن تقدم ثورة ثقافية على أقل تقدير، وأن تبتعد عن محاكاة عملية الخلق الواقعي، وتجهد في تقديم صورة مؤسلبة للواقع، وتحاول أن تقدم أيضاً حنينها العارم إلى «الأبيض والأسود»، وإلى الظلال الثقيلة الغموض، التي تنتشر في عالم نصفه حلم ونصفه واقع.
سيطرت المدرسة التعبيرية، بلا هوادة، حسب المؤرخين سيغفريد كراكاور ولوته ايزنر، على فن الفيلم الألماني، الذي كان يعيش عصره الذهبي. ويُعد فيلم «مقصورة الدكتور غاليغاري» المؤسس الحقيقي لتيار التعبيرية، سماه الفرنسيون «غاليغاريه»، الذي أطلق من خيمته تيار تلك الأفلام، التي أسست إمارة من كائنات مرعبة على شاكلة الطبيب كاليغاري ومصاص الدماء نوسفيراتو والمقامر الطاغية مابوزه...
ومع أن سيناريو الفيلم، عالج الجنون، الذي يستوطن كل سلطة، إلا أن الفيلم حرف هدفه وألقى بتهمة الجنون على جانب آخر، عبر إضافة إطار حكاية، حوّلت مجرى حدثه الأساس إلى هلوّسة مريض مجنون، وقلبت مادته السينمائية الثورية، التي دانت جبروت سلطة مطلقة، تدفع رعايا مسلوبي الإرادة، إلى الجريمة والقتل.
ومع كل ذلك استطاع «غاليغاري» إعطاء صورة طبق الأصل عن الوجه المزدوج للحياة الألمانية، لأنه ربط بين الحقيقة التي حققت بها سلطة غاليغاري الانتصار والوهم الذي سقطت فيه هذه السلطة. أكثر من ذلك كان «غاليغاري» مبشراً من نوع خاص، بمعنى أنه استخدم العنف بطريقة التنويم المغناطيسي لإجبار كائنات بشرية على تنفيذ رغبات مهووسة في توجيه الأرواح والسيطرة عليها، وهي الرغبات التي استخدمها هتلر في ما بعد إلى حدود لا نهائية. قاد نجاح غاليغاري الكبير، عند النقاد والجمهور، إلى فتح الأبواب أمام إنتاج الفيلم الفني وتبني تقنيته في التصوير داخل الاستوديو، واتباع طريقته في تشكيل الديكور المُصنع أو المرسوم واستخدام النور والظلال في تشكيلية الصورة.