‏أبواب‏

‏إيديولوجية الجبان‏

خليل قنديل

‏‏الجبان لا يكلف نفسه عناء القراءة، وهو عندما تراه وبشكل نادر يتصفح جريدة، يكون على الأغلب قد استعارها من شخص التقاه في عرض الطريق، أو في ازدحام الحافلة. والغريب أن يبدأ بتصفحها بطريقة تقززية تنم عن خبرة مزورة في القراءة، وهو في العادة يتعامل مع الكتب على اعتبار أنها قنابل قابلة للانفجار في أي وقت، ولهذا ترى هذا الارتباك وتلك الارتعاشة في يديه حينما يقع في يده أي كتاب. وهو باستثناء تلك الكتب التي كانت تكتظ بها كتبه المدرسية في تلك الحقيبة الصبيانية، لم يسبق له أن اقتنى كتاباً.

والجبان حينما يسمع نطقاً بالعربية الفصحى تراه يمد أصابعه نحو أذنه ينكشها مستكثراً على أذنه هذا النطق الأنيق، وذلك بسبب اعتقاده المزمن أن العربية الفصحى قد غادرها منذ أمد طويل في الفصل المدرسي، واعتقاده الإضافي أن الفصحى خاصة بالنشرات الإخبارية وخطابات الساسة. ولهذا حينما تسمعه جملة كاملة الدسم تراه يهمهم انزعاجاً وهو يتصور ان مثل هذه الجمل تقزم وعيه وتكشف عن مستواه كمستمع.

والجبان يتحاشى الانفتاح في أي علاقة، ويحب أن تبقى علاقاته مع الآخرين في حدود التهذيب الشائع والمجاني، وفي حدود المتفق عليه اجتماعياً من عبارات ممجوجة مستهلكة لا تكلفه عناء التفكير، وهو بهذا التحاشي يضمن نفسه من دفع أي ضرائب اجتماعية قد يكلفه إياها ذاك الانفتاح.

والجبان ينخرط مع الناس بنوع من التوجس المحسوب سلفاً، فهو يتحاشى تبني أي وجهة نظر، أو الدفاع عنها، ولهذا حينما تراه منخرطاً في أي حلقة اجتماعية سترى أكبرمساحة في ملامحه هي أذنه، التي تتشرب الكلام، وتأخذ منه ما تريد، دون ان يفكر بالمقامرة بأي نطق، إنه سارق الكلام بامتياز.

والجبان ينأى بعائلته عن الاختلاط بالناس، ويقوم منذ ليلة «الدخلة» على زوجته المسكينة ببناء استراتيجية التقشف في العناق وفي الكلام وفي مصاريف البيت ومشاهدة الفضائيات وفواتير الكهرباء وتلك الطبخة النيئة التي فيها طعم الحسرة والإصرار الدائم على عدم التبذير حتى في المضغ.

والجبان هو شخصية جحرية بامتياز، لا يخرج من جحره إلا بسبب الذهاب كي يأخذ، فهو يمتلك خبرة عجائبية في عدم المنح والعطاء، ويرفض أن يعود الى جحره إلا وهو يحمل الغنائم. الجبان هذا الذي يقولون عنه اختصاراً «مسكين بحاله» هو أحط الشخصيات المسؤولة فعلاً عن معظم انهياراتنا الاجتماعية.

الجبان الذي ورّث الأحفاد في التاريخ العربي العديد من الأمثلة التي تدل على الخنوع الاجتماعي التراثي المزمن، كتلك الأمثال التي يسعى إلى ترسيخها بالنطق الدائم والارتكاز عليها مثل «الحيط الحيط.. الحيط ويارب الستيرة»، أو «ضع رأسك بين الرؤوس وقل يا قاطع الرؤوس»، أو «اليد التي لا تقدر على عضها، قبلها وادعو عليها بالكسر»، أو «كلام القرايا لا ينطبق على كلام السرايا»، وبقية الامثلة الشعبية التي صارت تعبيراً ممجداً عن شخصية الجبان الذي يرتع في حلقاتنا الاجتماعية على تعدد أشكالها وتنوعها.

إيديولوجية الجبان «البخيل» هي سر خرابنا المضارعي الذي نعيش، والمفتاح الصدئ لبوابة كوارثنا المقبلة.‏

khaleilq@yahoo.com

 

 

تويتر