كل جمعة
المشكلة ليست في الإعلام
حضر مؤتمر المدينة المنورة أكثر من 500 مفكر وفقيه، وكان تحت عنوان «الإرهاب بين تطرف الفكر، وفكر التطرف». وانتهى، أول من أمس، إلى «رفض العمليات الإرهابية، أينما وقعت ومن أية جماعة كانت»، في موازاة ضرورة وضع مفهوم دولي للإرهاب، للتمييز بينه، وبين المقاومة المشروعة للاحتلال.
مثل هذه التوصيات مستنسخة تماماً عن عشرات اللقاءات الفكرية السابقة، بعد اعتداءات 11 سبتمبر، وهي تحرص دائماً على «أضعف الإيمان» في مواجهة التطرف، ولا تقدم أية معالجات نقدية للمؤسسة الرسمية العربية التي رعت التطرف في العقود الماضية، حتى بات عبئاً عليها، ووجدت أنها تحتاج إلى تغييرات مفصلية في مناهج التعليم، وإعادة الاعتبار إلى القوى الاجتماعية المعتدلة، ووضع برامج تنموية فاعلة لمواجهة الفقر الذي يولّد الإحباط واليأس، ويوفر التربة الملائمة لأسوأ أنواع التطرف، بحيث تناثرت جثث المئات من ضحايا العرب في شوارع العراق والسعودية ومصر والأردن والمغرب والصومال في عمليات إرهابية، سماها المتطرفون «جهاداً»، بعدما كفّروا مجتمعات بأكملها.
أسوأ نتائج المؤتمر أنه تجاهل فوضى الفتاوى المتطرفة الأخيرة التي حرّمت الاختلاط في العمل والتعليم، ودعت إلى قتل من يبيحه، وبعضها طالب بهدم المسجد الحرام، وإعادة بنائه بما يكفل عزلاً تاماً بين الرجال والنساء، واكتفى بتحميل الإعلام مسؤوليتها وليس الفقهاء المتطرفين الذين لا يعترفون بعبور القرن الحادي والعشرين علينا في هذا الزمان والمكان.
استخدم المؤتمر تعبير «أدعياء العلم الشرعي» وطالب بميثاق شرف للقنوات الفضائية، تحظر ظهورهم عليها، ما يعني أن أكثر من 500 مفكر يعتبرون أن المشكلة أساساً في الإعلام، وليست في البيئة والمؤسسة التي تنتج التطرف، وتحضّ على استهلاكه تحت طائلة التحريم والتكفير والقتل.
القول إن المشكلة في الإعلام يُعفي الحكومات العربية، ومعها المؤسسة الدينية الرسمية في العالم العربي، من دورها الأساسي، كما يضع هيئات العلماء والفقهاء المستقلين خارج مهمتهم الأساسية في الاجتهاد، وفي تخفيف حدة التطرف في أبعاده الثقافية والاجتماعية، وفي المساهمة في فهم الحياة في العصر الحديث بعيداً عن الانغلاق والجمود، وكل ذلك يؤدي الى هوامش واسعة تتحرك فيها، بفاعلية وتأثير، فتاوى المغالاة والخروج على المجتمع وتكفيره، وتالياً إرهابه، بحجة استئناف الحياة الإسلامية، وليس تشجيع القيم الإيجابية في إعلاء شأن الحريات العامة، والاعتدال في محاورة الآخر وفهمه.
لا تمكن مطالبة الإعلام، ووسائل الاتصال الحديثة، كالإنترنت، بدور ومسؤولية، قبل تحريرها من القيود التي تعيق حركتها في العالم العربي، وتمنحها أفقاً مفتوحاً، خارج الرقابة والمنع، وبمعزل عن القوانين الموروثة من عصر الحمام الزاجل.
فالدين مكوّن أساسي في الشخصية العربية، وفي الثقافة العربية، ولا يجوز أن يُترك لـ«أدعياء العلم الشرعي» الذين لم يفهموا الاجتهاد إلا في إطار فتاوى تستجيب للغرائز، وتهدم الأسرة، فأباحوا زواج «المسيار» و«المسفار» و«الوناسة»، وغيره، وحرّموا العمل والتعليم على المرأة إلا إذا كانت معزولة خلف جدران، تمشي إلى درسها ومكان عملها، محجوبة عن كل عين، وممنوعاً عليها الظهور في الحياة العامة، كأن بها وباءً، أو كأنها هي وباءٌ بحدّ ذاتها.