‏عزة النفس‏

‏‏يتحدث الناس كثيراً عن عزة النفس إلا أنهم لا يحدونها بتعريف، أو يفردونها بتصنيف، ولعل أكثر من تعرض لها بما يوشك أن يكون حداً جامعاً، وتعريفاً مانعاً؛ القاضي الجرجاني في قصيدته الشهيرة التي يقول في مطلعها:

يقولون لي فيك انقباضٌ وإنما رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما

أرى الناس من داناهم هان عندهم ومن أكرمته عزة النفس أُكرما

ولم أقض حق العلم إن كان كلما بدا طمعٌ صيرته لي سلما

الخ ما قال في هذه القصيدة التي قال عنها التاج السبكي: لله هذا الشعر!! ما أبلغه وأصنعه؟! وما أعلى على هام الجوزاء موضعه؟! وما أنفعه لو سمعه من سمعه؟! وهكذا فليكن وإلا فلا أدب.

هذه القصيدة العصماء التي هي أفهم من الكلام المنثور، وأوضح من المثل السائر المشهور، تخاطب القلوب التي في الصدور، فتبعث فيها العزة المنشودة، والسعادة الغامرة المقصودة، إلا أن الناس يريدون كلاماً وسطاً يناسب الزمان والمكان، فجرى القلم بما هو آت:

العزة أثر من آثار القناعة، والقناعة كنز لا يفنى، لا تجعل صاحبها يطغى، ولا في حياته يشقى، هي الإيمان بالقضاء، وهي الصبر على البلاء، وهي التزود بالرضا، وهي العافية من الابتلاء، هي التي تجعل الفقير في مصاف الأغنياء، والذليل في قائمة الأوفياء، وهي مقصد الأحرار، ومبتغى الأخيار، هي التي قال عنها الأدباء:

العبد حر ما قنع والحر عبد ما طمع

فاقنع ولا تطمع فما شيء أذل سوى الطمع

وهذا ما دل عليه الأثر ويروى مرفوعاً «القناعة كنز لا يفنى»، نعم هذه القناعة هي مفتاح العزة، لذلك كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يحث عليها بقوله: «انظروا إلى من أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم».

لا جرم أن هذا الهدي النبوي هو مفتاح السعادة، وسلم السيادة، إذ ليس الغنى إلا عن الشيء لا به، ومن لم يتمثله في نفسه يعش في هم الحسد، وذل النكد، ولا يأتيه إلا ما به الله وعد، وقد كان الشافعي، رحمه الله تعالى، يقول في أبيات له كقصيدة القاضي الجرجاني:

همتي همةُ الملوك ونفسي نفس حر ترى المذلة كفرا

نعم هذه هي العزة التي هي صفة المؤمنين، وطريق فلاح السابقين واللاحقين،وهي متاحة لذوي النفوس الأبية، والهمم العلية، إلا أن الدعوة إليها واجب العلماء، وصناعة الحكماء، ولعل الله أن ينفع بها من أراد له الخير، ليدفع عنه الهم والضير.

هي القناعة فالزمها تعش ملكا لو لم يكن فيها إلا راحة البدن

وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن؟

والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

 كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي ❊

 

الأكثر مشاركة