أبواب
شاشة الواقع وشاشة الخيال
يذهب المتفرّج إلى السينما لمشاهدة فيلم، وحينما يبدأ من موقعه الثابت يرى الأحداث المنعكسة على الشاشة، ينتج عن ذلك حالة فريدة. فهو يرتبط، جسدياً، بالموقع نفسه، إلا أنه يتابع الفيلم من زاوية نظر متغيرة، دون أن تصدر رؤيته من موقع واقعي، إنما من موقع افتراضي. تمتد الصور نحوه، ويبدأ سطح الشاشة المنبسط يتجسم أمامه بأبعاد ثلاثة كالواقع. ويتطابق تماهيه مع شخصيات الشاشة والأحداث ويبدأ في الدخول، تدريجياً، إلى عالم الشاشة، يعيش في أجوائها وينفعل بمجريات أحداثها.
يفسر المُنظّر الهولندي جان ماري بيترس عملية انتقال المتفرج من موقع وجوده في الصالة الى موقع وجوده داخل الشاشة عبر أربعة مواقع:
الموقع (1): يجد المتفرج نفسه مُحايداً إزاء الناس والأشياء في الصورة، ولا ينفعل بما يراه بأية طريقة. وهذه هي حالته عند بداية الفيلم أو عند بداية مشهد جديد.
الموقع (2): يتعرف المتفرج، في لحظة ما، من موقع محايد، إلى الصور، وفقاً للطريقة التي يحدد فيها المخرج إدراكه ويوجهه إلى اتجاه ما معين.
الموقع (3): أثناء ما تتنقل الكاميرا بين الناس والأشياء، يجد المتفرج المُحايد نفسه، فجأة، موضوعاً بين الناس والأشياء، ينتقل الى عالمهم داخل الشاشة. ويسهل انتقاله ظلام صالة العرض، ومجهولية الحضور ويزيلان المسافة بينه وبين الشاشة.
الموقع (4): حينما يبدأ المتفرج يشاهد بعين الممثلين ويرى الأحداث من موقعهم ومن زاوية رؤيتهم، يكون التماهي (الاندماج البصري التام) قد حصل. عندئذ يصبح المتفرج ليس فقط داخل عالم الصورة، إنما واحداً من شخصيات الشاشة.
ويفسر أموس فوغل لنا هذه الحالة أكثر، فإلى جانب الظلام الذي يطوّق المتفرج في الصالة، هناك حضور طاغ آخر للظلام، سببه فترة تعتيم لبرهة، بين كل صورتين متتاليتين تعرضان على الشاشة، لا تدركها العين التي تحتفظ على شبكيتها بالصورة المنعكسة من جهاز العرض، رغم اختفائها، عندها ينتج توهم الحركة، مع أن الشاشة لا تعكس سوى صور فوتوغرافية ثابتة.
في فيلم «وردة القاهرة الأرجوانية/ 1985» يتناول وودي ألن العلاقة بين الوهم والواقع: تهرب بطلة الفيلم سيسيليا من واقع مشكلاتها الزوجية الى السينما، وتختار كل مرة مشاهدة الفيلم نفسه، لأنها مُغرمة ببطله توم باكستر. ويحصل أن يقع البطل أيضاً في غرامها وينزل ذات مرة فجأة من الشاشة ليضمها في الصالة، غير أن علاقة الحب بينهما تتعثر في الواقع وتنتهي بعودة باكستر مخذولاً الى الشاشة. والغريب أن المتفرج إذ يتوهم أن أولى الشاشتين هي شاشة واقع، فإنه يُدرك أيضاً أن ثاني الشاشتين هي شاشة سينما!
لا يتوصل المتفرج، حسب يوري لوتمان، إلى التمييز بين الحياة والسينما، لأن انفعاله الجمالي يأتيه من تماهيه مع الشاشة، فهو ينسى أن ما تعكسه هو عالم من الخيال. وقد عرّف بوشكين الانفعال الجمالي بأنه الخيال الذي يجعلنا نذرف الدموع، فنحن نحس، مثلاً، بالخوف أمام مشهد قتل بطلة فيلم «سايكو/1960» في الحمام، كما يصورها هتشكوك، لكننا نعجب، في الوقت نفسه، بمهارة صور الجريمة ومونتاج مشهدها الفني.