سؤال الإبداع العربي
استطاعت الحروب المتتالية التي شهدها العالم في حربين عالميتين، وبسبب التدمير الكارثي لكل ما أنجزه الإنسان من معارف وفلسفات حضارية لحظة إغلاق أبوابها وحلول السلام والمعاهدات، أن تنجز العديد من الفلسفات والأفكار الأدبية الجديدة التي هي في الأصل الوليد الشرعي لمثل هذه الحروب الكارثية.
فالفلسفة التي ظلت تهمش الإنسان، معتبرة إياه من الأركان الاستكمالية للسؤال الفلسفي القدري، التي لا يمكن أن تنتج فلسفة خاصة بمصيره، تراجعت عن هذا المبدأ تماماً، وايقظت الفلسفة الوجودية التي تحولت الى فلسفة ينطق بها الجمع البشري في المقاهي والجامعات وفي الصحف الشعبية. فقد وضعت الحرب العالمية الثانية الإنسان الذي اعتقد انه استقر تاريخياً أمام أسئلته الوجودية القائمة على الاختيار والعبث الحياتي الذي يعيشه.
وقدمت لنا الحرب العالمية الثانية، الأعمال الأدبية التي تجمّل الهم الوجودي وتعممه في روايات وقصائد ومسرحيات، فظهرت اعمال جان بول سارتر الروائية المتمثلة في دروب الحرية والغثيان واعمال سيمون دبوفوار عن الجنس الآخر ومذكراتها التي فضحت المناخات الثقافية، ورواية البير كامو «الغريب». وظهرت في اعقاب الحرب العالمية الثانية الثورة الفنية في التشكيل بظهور الفن السريالي، ومدارسه المتشعبة، وفي مسرحيات عبثية مثل مسرحية بيكيت «في انتظار غودو».
وقد كان لهذه النتاجات الأدبية انعكاساتها الخاصة في مجمل ساحات الثقافة العربية في ستينات وسبعينات القرن الفائت الى الدرجة التي كنا نعتقد أن الفلسفة الوجودية هي احدى تجليات الثقافة العربية.
الحرب العالمية الثانية شأنها شأن كل الحروب التي عاشتها البشرية استطاعت ان «تكهرب» الوجود الإنساني وتعيده طازجاً ليقف على عتبة اسئلته الوجودية. وليبث كتابته الجديدة بعين جديدة ايضاً، سبب جدتها هو كل هذا الخراب الذي زلزلت اركانه الحروب.
مقابل هذا المعطى الذي تقدمه الحروب عادة في استنهاض قوى الأسئلة الإبداعية لدى الشعوب، نود أن نسأل عما أفرزته الحروب التي عاشتها الدول العربية على كل الصعد. والغريب اننا سنجد انفسنا امام دائرة مفرغة من الإبداع القادر على التوازي مع همجية الحروب والمذابح التي تعرضت لها الشعوب العربية في أكثر من مرحلة.
فكارثة حرب عام 1948 التي نتج عنها اقتلاع الشعب الفلسطيني من دياره وتهجيره في منافي وأصقاع العالم، وإعلان قيام دولة اسرائيل، لم تنتج ادباً أو حتى فكراً يتوازى مع حجم هذه الكارثة، باستثناء بعض الإبداعات التي تكاد تكون فردية لشعراء المقاومة. اما جرح الكارثة الذي أدمى شعباً بكامل كيانه وإرثه ووجدانيته فقد ظلّ بمنأى عن الولادات الإبداعية القادرة على تجسيد التراجيديا الفلسطينية.
وحتى ان الحروب اللاحقة مثل حرب النكسة عام 1967 لم تنتج الأدب القادر على بعث الأسئلة الإبداعية المتوازية مع حجم النكبة التي اعادت تشريد الشعب الفلسطيني.
والأمر ذاته ينطبق على الحرب الأهلية اللبنانية التي حرقت الأخضر واليابس في عاصمة الدنيا بيروت لمدة 15 عاماً، حيث لم ترتق الكتابة الإبداعية لمستوى زلزال الحرب اللبنانية. والحالة الفقيرة ذاتها تنطبق على الحرب في العراق واحتلال بغداد، في عدم وجود النتاجات الإبداعية التي يمكن ان تعبر عن حجم الخراب الذي أحدثته مثل هذه الحرب على العراق وتاريخه.
والمحزن المبكي بعد كل هذا، هو لهاث الإبداع العربي خلف الإبداع الغربي تاركاً خلفه كل هذا الدمار الذي يحيط بروحه من دون كتابة!