من «الأريل» إلى «الدش»
في سنوات البث التلفزيوني الأرضي، التي تبدو في سنوات هذا الزمن السريع كأنها من عصور التاريخ القديم، كانت المحطات التلفزيونية محدودة، ومحددة في الفضاء المحلي، وما يجود به هدوء الرياح وحدود استقبال «الأريل» من محطات بعض الدول المجاورة. في ذلك الوقت كانت الاختيارات أمام المشاهد محدودة، ولكنها كانت واضحة وتسهل متابعتها. وكانت البرامج متوافقة مع طبيعة الوقت ومتناسبة مع فئات المجتمع. بل إن البث كله كان في حدود قدرة المشاهد على تنظيم أوقاته، وقدرة فئات المجتمع على التكيف معها كل حسب نوعه ووقته. فقد كان هناك وقت للابتداء ووقت لانتهاء البث، ووقت للأطفال ووقت للكبار، وأوقات للثقافة وأوقات للتسلية، وأوقات للمسلسلات وأخرى لأفلام السهرة. ببساطة.. كانت البساطة والوضوح هما عنوانا الدورات البرامجية.
وعندما تنحّت أجهزة الاستقبال الأرضية تاركة المجال لـ«الدش» يجول الفضاء لاصطياد كل ما ترسله الأقمار الاصطناعية، ودخلنا عصر البث الفضائي اختلط الحابل بالنابل، وتداخلت الأوقات حتى أصبحنا نرى برامج صباحية تبث بعد منتصف الليل، وبرامج للكبار تنغص على الأطفال حصتهم البرامجية، وبرامج للأطفال تزاحم أفلام السهرة. وسقطت كل ضوابط العملية الإعلامية باختلاط المفاهيم واختزال الوقت. لذلك أصبحنا نرى مواعيد عرض رسوم «توم وجيري» بعد العاشرة مساء، وأصبحت لدينا قنوات للأطفال لا تنام مبكراً لتصحو مبكراً، وأصبحت برامج الطبخ تقدم وجباتها بعد أن ينام الناس، وأصبحت مباريات كرة القدم سبباً في السهر حتى الصباح.
هذه العبثية في الإرسال التلفزيوني تكاد تكون عنوان عبثية الزمن الرقمي، الذي لم يعد يعترف بدوران الأرض حول نفسها ولا بدورانها حول الشمس فألغى سنّة الليل والنهار وجعل اليوم كله نهاراً.