ثقافة الإبعاد في الاستراتيجية الصهيونية
لطالما تباهت الولايات المتحدة الأميركية بما يسمى التعددية الثقافية.
كانت المسألة صحيحة في الشكل، بمعنى أن المجتمع الأميركي مكون من أعراق وإثنيات وأديان متباينة، لكنه مجتمع متجانس، مترابط، مساوٍ في الحقوق والواجبات بين المواطنين الأميركيين. وقد راجت هذه الأكذوبة زمناً طويلاً، على الرغم من أن عدداً غير قليل من المفكرين الأميركيين حاولوا كشف هذه الأكذوبة من زمن بعيد. كانت الفكرة قائمة على مدى حفاظ كل عرق على ثقافته الأصلية. وقد تبين لغير مفكر أن هذا الأمر غير ممكن بالنظر إلى ما يجري على الأرض، أي بالنظر إلى الاستراتيجيات الثقافية القائمة، والتي تتحكم في تسويقها وسائل الإعلام المملوكة من قبل أصحاب الثروة والنفوذ.
وبمعنى آخر، فإن الاستراتيجية الثقافية الأميركية قائمة على تذويب الثقافات المغايرة للثقافة الأنجلو سكسونية، وإخضاعها لثقافة القوة والهيمنة والسيطرة والنفوذ واستغلال الغير، أي القضاء على القيم التي قامت عليها الثقافات الأخرى، طالما كانت تلك القيم حاجزاً أمام مشروعات الهيمنة والاستغلال.
وما إن أفاقت أميركا على أحداث الحادي عشر من سبتمبر، حتى تكشفت أكذوبة التعددية الثقافية، عندما لعبت الإدارات الأميركية على الفروقات بين جواهر الأديان، وإعلاء بعضها فوق بعض. هنا وضعت أميركا حداً لمقولة التعددية الثقافية، طالما رأت أن استراتيجيتها الثقافية لم تعد تمتلك قوة التحقق في ظل مجتمع يعاني خللاً بنيوياً عميقاً، يتمثل في وضع حواجز عملاقة بين ثقافات أميركية من أصول مغايرة، وبين الثقافة المهيمنة، أي ثقافة الشركات العابرة للجنسيات والقوميات والقارات. في الماضي لم تكن لدى هذه الثقافات المغايرة أي امتدادات أو اتصالات مع مثيلاتها أو أمهاتها خارج الولايات المتحدة الأميركية، وهو ما لم يعد قائماً اليوم. وهو ما جعل أصحاب النفوذ يتخوفون من بروز تعددية ثقافية حقيقية في المجتمع الأميركي، ما يعني صراعاً شرساً في المجتمع نفسه، قد يطيح بالاستراتيجيات الثقافية النافذة.
المهم هنا، هو أن الكيان الصهيوني عاش تجربة مشابهة منذ إنشائه بقرارات تعسفية. فطالما تغنى هذا الكيان من قبل بالتعددية الثقافية في نسيجه، حين لم يكن عدد السكان العرب يشكل مأزقاً وجودياً في المدى المنظور. أما وقد ازداد عدد السكان العرب من جهة، وازداد تمسكهم بالقيم الثقافية العربية، الرافضة للظلم والاستبداد والقهر، والداعية إلى الحرية والعدالة، فإنه لم يعد أمام هذا الكيان سوى الضرب عرض الحائط بفكرة التعددية التي لطالما تغنى بها، وقرر طرد مئات الآلاف من الضفة الغربية وقطاع غزة، ناهيك عن المشروع القديم الجديد المعروف بالترانسفير، الذي يتضمن تهجير ما تبقّى من عرب فلسطينيين في الكيان الصهيوني.
إن بقاء الثقافة العربية الفلسطينية الفاعلة في الكيان الصهيوني، تعني في وضوح لا لبس فيه، أن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني ستظل مصونةً ومحفوظة، حتى ولو حاول العدو الصهيوني تجاهل هذه الحقوق أو التحايل عليها، أو البحث عن أطراف إقليمية ودولية تساعد العدو على طمسها.
وهنا علينا الإشارة إلى أن التركيز على القدس وتهويدها، لا ينبغي له أن ينسينا الاستراتيجية الصهيونية، الساعية إلى قتل جوهر الثقافة العربية الفلسطينية، القائم على القيم الإنسانية المقدسة، في الحرية والعدالة ومحاربة الظلم والاستبداد.