‏أبواب‏

‏خريطة الأصدقاء‏

علي العامري

‏في مقهى يطل على بحيرة خالد في الشارقة، كان سطح المياه يتلألأ مثل ذكرى، وكان شخص يجلس على طاولة خشبية، يحتسي قهوته الصباحية، وبين رشفة وأخرى، ينظر إلى تلك المياه الممتدة مثل مرآة، يرى فيها صور أصدقاء له، ويسأل نفسه عن أماكنهم الآن، وحياتهم الآن، وانشغالاتهم الآن، ويتذكر تفاصيل من حياة هؤلاء الأصدقاء وملامحهم وأصواتهم وطريقة ضحكاتهم وحالات حزنهم أيضاً.

في ذلك المقهى، وعلى تلك الطاولة، وأمام مرآة المياه، كانت الذكريات تنهمر مثل مطر خفيف، والصور تتلاحق مثل شريط، وخريطة الأصدقاء تضيء الذاكرة.

يعود إلى طفولته في قرية قريبة من نهر وشلال وسدّ ومزارات، تلك القرية الموشومة بخضرة الحقول، كان مع أصدقاء طفولته يذهبون مشياً إلى المدرسة، ويعودون كذلك، وفي كل الفصول.

في الشتاء يعودون مبلّلين بالدهشة والمطر، وفي الربيع يرجعون مرقشين بالزهور، وفي الخريف تعلق أوراق الشجر بثيابهم وحقائبهم المدرسية، وفي الصيف تسطع الشمس في رؤوسهم الحليقة.

كانوا يصنعون ألعابهم بأيديهم، ويبتكرون من مخلفات الحياة والحروب ما يجعل الأرض أكثر جمالاً، ويطلقون في فضاء القرية طائراتهم الورقية مرفرفة ببراءة في تلك الزرقة الصافية.

أطفال ينصبون فخاخهم للظلال، ويستدرجون الريش والضحك والرمان، ويلاحقون فراشات ملونة تفرّ من قمصانهم المفتوحة مثل قصيدة في البراري.

أطفال يركضون في خضرة العمر، ويصعدون جبالاً بحثاً عن بلوطة أو فرخ حجل.

أطفال يقطفون العنب، وهو حصرم، ولا يأبهون إلا بطفولتهم الخضراء والحرة مثل غناء رعاة في أعالي الجبال.

وذلك الشخص الذي أمضى ساعة صباحية في مقهى مطل على البحيرة، رحل بذاكرته إلى زمن الطفولة وما بعدها. يتذكر ويشاهد من جديد صوراً لأصدقاء له، كما لو أن الذاكرة «مختبر تصوير» يقوم بتظهير تلك الصور التي تحيا مجدداً، كلما تذكرها ذلك الشخص الجالس قبالة المياه.

يتذكر خريطة أصدقائه التي تتعدل جغرافياً مع مرور السنوات. وودّ لو أنه يرسم تلك الخريطة الشخصية، فأصدقاؤه توزعوا في قارات الأرض، ولكن منهم من غادر إلى المقبرة، تلك القارة السابعة التي يشيدها الموت قبراً قبراً، وبهدوء معماري الحفر «المستطيلة».

أصدقاء توزعوا في «خريطة القلب»، وذكريات تتوزع في الذاكرة، وصور تتراءى في مياه المرآة، وأزمنة تتداخل مع أمكنة وقصائد ورسائل ووجوه.

لكن، عندما غادر ذلك الشخص مكانه، راحت البحيرة تتذكر شاعراً كان يجلس في مقهى.‏

ali.alameri@emaratalyoum.com

تويتر