مسيح الأبنودي
عندما ترسل أبناءك إلى المدرسة، ويعودون بأفكار غريبة حول الدين والجنس والهوية والوطن. عندما يهاتفك عابث مدّعٍ، وأنت تعرف أنه يزجي الوقت في التسلية. عندما تشاهد أخبار العاشرة مساء، وترى صبياً يضربه الجنود حتى الموت، ويبخرون أحلامه الهائجة. عندما تكتب وأنت تعرف أن قلّة قليلة جداً من الناس يقرأون. عندما تصبح أجرة البيت وفاتورة الكهرباء هاجساً على مدار الشهر. عندما لا تجد مقعداً لابنك في الجامعة. عندما لا تجد وقتاً مناسباً لتناول وجبة مع أسرتك، بسبب خوفك من الوقت الذي يداهمك كالطوفان. عندما تكون مضطراً لانتظار أطباء الطوارئ المتعبين في مناوبة ليلية، بينما حرارة ابنتك تلامس الأربعين. عندما، وعندما، وعندما.
ربما لن تتسع الصحيفة للمرارات التي يمكن لأي منا أن يسكبها كالدمع، في مجتمعات غرقت في فضيلة التمدن والتحضر الزائفة، ونامت على حريرها، واستطابت النوم.
ليست هذه الكتابة نعياً للحياة، مقدار ما هي بحث عن فسحة الأمل التي أشار إليها المتنبي حين قال: ما أضيق العيش لولا فسحة الأملِ.
والأمل الذي كان في جيلنا نحن أبناء الهزيمة والثورة معا، أصبح الآن في جيل آخر يسمع بالهزيمة والثورة والتغيير. يرتدي قميصاً بصورة غيفارا ولا يعرف شيئاً عن صاحب الصورة.
ومناسبة هذه الكتابة، جاءت قبل يومين، عندما استمعت إلى مقابلة هاتفية مع الشاعر عبدالرحمن الأبنودي في فضائية مصرية. كان يتحدث بمرارة كبيرة. وحين طلب منه مقدم البرنامج أن يسمعه شيئا من كتاباته، أنشد للمستمعين قصيدته (المسيح) التي غناها عبدالحليم حافظ قبل عقود. وأشار إلى أنه لم يعد يكتب مثل السابق، لأنه من أبناء جيل امتزج فيه الهواء والحب والحياة بالقضية الفلسطينية، وبأحلام التغيير. وتساءل عما سيحدث له في هذه الأيام لو أنه عرض قصيدته (المسيح) على مطرب شاب!
كان مقدم البرنامج يعرض مقاطع من فيلم يظهر لنا كيف يربي العدو الصهيوني أبناءه على كراهيتنا، ويحرضه على قتلنا. وهنا قال الأبنودي: «طيب ونحن ماذا فعلنا؟».
كان الأبنودي ينطق بلسان جيل عربي وجد نفسه فجأة مهمشاً، ومرمياً خارج سياقات الحياة العربية اليومية. جيل ضحى كثيراً، وحلم بمقدار تضحياته، لكنه كوفئ بالتهميش والعزل. حسناً، فليكن، طالما أن التاريخ يريد ذلك. ولكن التاريخ لا يمكنه أن يتفرج على أحلام أمة وهي تذوب أو تتبخر. ليكن هذا الجيل ـ أردنا أم لم نرد ـ هو الممسك الآن بناصية المستقبل القريب، وليكن ثمة افتراق في الرؤية، فهذه سنة التاريخ. ولكننا فقط نريد شيئاً واحداً، هو أن يحس قليلاً بحمى أطفالنا، وأن يلتفت مساء إلى شاشة التلفاز لكي يعرف ـ فقط ليعرف ـ أن هنالك أطفالاً عرباً ينامون على جوعهم، وربما يستيقظون على هراوات الجنود، وقد لا يستيقظون أبداً، لأن قذيفة غضبت من أحلامهم فأحرقتهم.
نريد فقط من هذا الجيل، ألا يذهب إلى النوم رافعاً رأسه بالدعاء على آبائه وأجداده. ولا نريد أبداً لهذا الجيل أن يكون نسخة عن جيل سابق، فهذا ضد منطق التاريخ والحياة.
نريد فقط أن نذهب إلى موتنا ونحن مطمئنون إلى أن وراءنا من يحبون الحياة، ويستمتعون بها، ولكنهم أيضاً لم ينسوا (المسيح)!