‏أسرى لدور النشر‏

‏في ستينات القرن الماضي، كانت الكتب الوجودية تغزو المكتبات العربية، وعقول القراء العرب، حيث كان القارئ العربي يشعر بالنقص إن لم يقرأ ما تلقي به المطابع من تلك الكتب. اشتهر لدينا جان بول سارتر والبير كامو وهيدغر في درجة أقل، إلى أن حدثت هزيمة عام.1967 حينها انطلقت حركة التحرر الفلسطينية، وأصبحت ممثلة طموحات العرب وآمالهم وأحلامهم من الماء إلى الماء، وكأنها تعبير عن رغبة عربية شاملة في التغيير والانعتاق من نير العبودية والاستبداد. يومها كانت الواقعية الاشتراكية تشكل مرجعاً ثقافياً عاماً، فشاعت روايات حرب الأنصار السوفييتية، على الرغم من ركاكة الكثير منها فنياً.

وبعد خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان، والبوح العلني بقبول التسويات السياسية للقضية الفلسطينية، أخذنا ننفتح على ثقافات أخرى، يومها اكتشفنا الأدب الياباني، وعرفنا ياسوناري كاواباتا، ويوكيو ميشيما وكوبو آبي وغيرهم، ثم التفتنا إلى أدب أميركا اللاتينية، فدهشنا بماركيز وآستورياس وخوان رولف وماريو فارغاس يوسا وآخرين.

ما أود قوله، هو أننا لم نكن يوماً أحراراً تماماً في انفتاحنا على الآداب العالمية. كنا ولانزال أسرى ما تقدمه إلينا دور النشر العربية من ترجمات تلك الآداب، إلى الحد الذي أصبحت الجغرافيا الثقافية موضة عربية. فلم نتواصل مع آداب أميركا اللاتينية كما بدأنا. واختفت الرواية اليابانية من مكتباتنا. وصارت روايات حرب الأنصار مجرد ذكريات، إلى درجة أن الكثيرين منا تخلصوا من وجودها الفيزيائي من مكتباتهم. وحين شاعت البنيوية في الغرب، لم تتمكن من اقتحام عالمنا الثقافي كما حدث لغيرها من قبل، بسبب صعوبة فهمها من دون قراءتها باللغة الأم. وكذلك الحال مع التفكيكية التي نقرأ عنها كتابات عربية متناقضة تشي بالالتباس الكبير الذي يحيط بها، على الرغم من أهمية الكثير مما جاء فيها، من دون إصدار حكم قيمة نقدي، لأنه متعذر أصلاً في هذه الحال.

ويعود الأمر إلى هذه الفوضى في انفتاحنا على الثقافات العالمية، إلى غياب منهج تعليمي في مدارسنا وجامعاتنا، التي لا تجد نفسها معنية بوضع استراتيجيات ثقافية شاملة، تتضمن كيفية القراءة، ومنهجيتها.

فقد كان ينبغي لهذه المؤسسات مثلاً، ألا تقفز فوق آثار الإغريق الفلسفية والدرامية، لتلاحق آخر أجزاء حكاية بحار حنا مينه! وكان ينبغي لها أيضاً أن تركز اهتمامنا على كلاسيكيات الآداب العالمية، قبل الشروع في الاطلاع على روايات الأنصار، التي اكتسبت ذات يوم أهمية أكبر من كل ما كتبه ديستويفسكي وتولستوي وأنطون تشيخوف، تماماً كما اكتسبت كتابات كولن ويلسون وسارتر وسيمون دي بيفوار أهمية تفوق أشعار رامبو وبودلير وروايات بلزاك وفلوبير وقصائد إدغار ألان بو وقصصه.

فالقراءة المنهجية وحدها كفيلة بتحريرنا من قيود دور النشر العربية التي لا ترى في الكتاب سوى سلعة تجارية مربحة، سواء أكان الكتاب لشكسبير أم لكاتب هاوٍ لا أهمية لكتابته سوى ما يسوقه الإعلام الغربي الموجه.

والقراءة المنهجية تلزمنا بالمرور بآثار العقل البشري، من دون إهمال إقليم ثقافي لمصلحة إقليم آخر. ومن دون الاستجابة العمياء للهجمة الإعلامية الموجهة لرسم ثقافات معينة، هدفها طمس الكثير من الثقافات الإنسانية الضرورية للعقل البشري.‏

‏damra1953@yahoo.com

الأكثر مشاركة