الإعلام الهادف
لم يعد الإعلام وسيلة لنقل الأخبار الصادقة، والأحداث المتلاحقة، عبر الأثير الذي قد يخفي الكثير كما كان قبلُ، بل لقد أصبح عماد السياسة والاقتصاد والاجتماع، ومع كونه كذلك إلا أن أغلبه بغير رسالة هادفة، ولا رؤية واضحة، فأكثره يردد صدى المنتجات الغربية والشرقية، بعجرها وبجرها، ناسياً مسؤوليته نحو دينه وثقافته وبيئته ومجتمعه، كما يفعل ذلك الإعلام في الغالب.
لقد أثارت كلمة عالم الكيمياء الفيزيائية المصري د. أحمد زويل يوم أمسِ، في منتدى الإعلام العربي، إعجابنا عن دور الإعلام الغائب عن غرس القيم ومسؤوليته في العلم، وعاب على القنوات العربية كثرتها مع غثائها، وعاب أن يكون فيها نحو تسعين قناة دينية يكثر فيها المفتون من غير التمحيص الذي ينبغي كما يجري في العلوم التجريبية! وحُق له ذلك، فإن التخصص في الدين يتعين أن يكون أشد منه في العلوم التجريبية؛ لأن الخطأ في الدين يورد المهالك، فقد كانوا يقولون: زلةُ العالِم زالةُ العالَم؛ إذْ يترتب على زلته عمل الناس، ويكون مسؤولاً عنه أمام الله، وقد كان الحديث في الدين يخضع لإجازة العلماء الكبار كما قال الإمام مالك: ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك، ويحكي لنا التاج السبكي أن الإمام الجويني قال يوماً لتلميذه الإمام الغزالي: يا فقيه، فرأى في وجهه التغير، كأنه استقل هذه اللفظة على نفسه، فقال له: افتح هذا البيت، ففتح مكاناً وجده مملوءاً بالكتب، فقال له: ما قيل لي يا فقيه حتى أتيت على هذه الكتب كلها!
نعم هكذا كان الفقه بين أهله، وللأسف أنه لم يعد له من يحميه، حتى أصبح الحديث فيه كلأ مباحاً، أو كما قال بعضهم في أبيات منها قوله:
لقد هزُلت حتى بدا من هُزالها كُلاها وحتى سامها كل مفلسِ
والإعلام هو المسؤول الأول عن ذلك؛ لأنه يسوق للشهرة لا للشريعة والحقيقة،
ولعلي أتفق مع العالم الكبير في عدد القنوات الدينية من حيث الواقع والمضمون، لا من حيث التسمية، فالتسمية ليست هي المعيار؛ لأنها جزء من التسويق، إنما المعيار هو ما يقدم في هذه القنوات، فهل هناك قناة واحدة تقدم المفردات الدينية البحتة؟ نعم هناك قنوات لا تقدم إلا الغناء والرقص، وقنوات لا تقدم إلا المسلسلات، وقنوات لا تقدم إلا الطرب، وقنوات لا تقدم إلا الكرة، وقنوات لا تقدم إلا الأخبار... وليس هناك قناة لا تقدم إلا العلوم الشرعية البحتة، فتدرس التفسير والحديث وأصولهما، والفقه والأصول وقواعدهما، والسيرة والأدب، والنحو والتاريخ والبلاغة والمنطق... على أيدي علماء متمكنين ربانيين، فهذه العلوم هي التي تخرج رجالاً علماء فقهاء تمكنهم مع طول التلقي والبحث والاجتهاد في التحصيل أن يتحدثوا في الدين، وهي التي يصح أن نسميها قنوات دينية؛ ولا يصح أن نحسب على الدين قنوات تقدم نتفاً من برامج ثم يستكثر بها عليه، وهي كما قيل: تسمع جعجعة ولا ترى طحنا. فيا ليت لنا قناة واحدة تُعنى بما أشرت إليه، فتكون جامعة أكاديمية متخصصة، تدخل كل بيت، وتأمل أخي القارئ أو المستثمر كم من الناس سيستفيدون من هذه القناة لو وجدت، وهي مع ذلك لا تعكر صفو سياسة ولا اجتماع، وسينهل من معينها العلم الصافي والفكر الوافي، فإذا وجدت فلا نبالي أن يستكثر على الدين ما شاء من عدد إذا صح له قناة واحدة.
❊كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي