أبواب
لعنة المربع الأول
تسعى الشعوب في رحلتها نحو إنجاز مشروعها الحضاري إلى القيام بما يُشبه حرق المراحل المعيقة لتقدمها، وتدفع مقابل ذلك العديد من التضحيات الجارحة، ذلك أن التعامل مع مضارعها القائم، الذي يضعها في العادة على شرفة وآماد المستقبل يتطلب منها القيام بفعل المغادرة النهائية لأولويات تشكلها.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن الوحدة الأوروبية التي تمثلت في انجاز الاقتصاد الواحد والعملة الموحدة، وربما القرار السياسي الواحد، هي وحدة سليلة حروب دينية وسياسية متواصلة، وسليلة دمارات وحروب استمرت سنوات طويلة، لكن كان لابد وأمام التحديات الطارئة على مستقبل هذه الدول أن يؤسسوا لوحدة حقيقية تتجاوز مساحة الضغائن النائمة، وفكرة ايقاظها والتطلع الدائم إلى تحقيق المستقبل الأبهى والأجمل.
لكن المراقب للحركة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية العربية، إضافة الى مجموعة استحداثات النظم المعرفية والفكرية، يلحظ أن الأمة العربية قد تستغني عن كل شيء الا عن مربعها الأول، الذي تحول الى خندق أخير، تذهب اليه المجتمعات في كل محنة وفي كل طارئ جديد عليها.
فالدولة العربية المعاصرة التي أسس لها محمد علي عربياً، ومن ثم بدأت الدول والممالك العربية في التناسل لرسم ملامح دولتها الخاصة ظلت تحافظ على المربع الأول وعلى الصعد كافة، باعتباره المرجع الذي لا يمكن المجازفة بوجوده.
ففي التقسيمات الجغرافية لهذه الدول بعامة ظلت الحدود تتشكل على حساب قنابل موقوتة قابلة للانفجار في أي وقت لتعيدنا الى المربع الأول، وإلى حدود الرعي وحدود مضارب القبيلة، وظلّ هذا التنازع الحدودي يمارس حضوره وغيابه بحسب المتطلب السياسي لوجوده، لكن ما من أحد حاول القضاء عليه وتسويته بشكل نهائي.
وفي خطابنا السياسي العربي مازلنا نحافظ على المربع الأول القائم على القوة الإنشائية وسحر البيان في خطابنا السياسي، ومازال مربعنا الأول في هذا الخصوص يقبع في الجمل المتورمة لغوياً، والطموحات والأماني التي ما إن توضع على المحك الإجرائي الواقعي حتى نراها تتبدد وتتبخر، ومن يرد أن يتأكد من ذلك فليعد الى خطاباتنا السياسية في دساتيرنا وخططنا الاقتصادية وسحر الإنشاء في البيان الأول لصاحب الانقلاب. ومن يرد أن يتأكد أكثر فليعد إلى كل السماكات اللغوية الخاصة بالشفاهية التي ظلت تسعى ومازالت إلى تحرير فلسطين. أما على صعيد البنية الفكرية والتطلعات الفلسفية والأدبية، فإن مربع الماضوية السلفية القائم على حراسة الذوق العام بالمنع والمصادرة وتكميم الأفواه، مازال هو السائد، ومازال كلما تقدم الفكر العربي نحو خطوة تجديدية إلا وخرج حراس الماضوية لنعت اصحاب هذا الفكر بالكفر وربما بالزندقة.
وحتى في الشعر الذي هو ديوان العرب مازالت هناك جهات ومؤسسات تعتبر أن قصيدة التفعيلة أو قصيدة النثر هما من الأفعال التخريبية في الشعر العربي، وأن الشعر العمودي هو أساس الشعر العربي، وما عدا ذلك فهو زندقة وتخريف.
وبهذا نستطيع أن نجزم بأن فكرة المربع الأول هي الفكرة التي تعرقل كل توجهاتنا الحضارية لتعيدنا دائماً الى تلك الحماقة الأولى، التي تشعرنا بالأمان الخانق القادر على تقويض كل فكرة رائدة.
إنها لعنة المربع الأول.