(نصف الصدق.. كذب)
أن أصحو من النوم لأفاجأ بوجود 187 مكالمة لم يرد عليها، فهو يعني أحد أمرين، إما أن أحد الأشقياء قد وزّع رقمي على أنه لفتاة غنية جميلة ترغب في الستر في أحد منتديات الدردشة، أو أن اسمي قد ظهر في الترشيحات لمنصب جديد. ولما كنت أستبعد الخيار الأول تماماً فقد جهزت نفسي لاستقبال التهاني، لكن من دون فائدة.
كان معظم الاتصالات من الزملاء الإعلاميين يبلغونني بوقوع هجمات إرهابية في مترو أنفاق في موسكو نفذها شخص يسمّى دوكو عمروف ـ تذكرت المثل المصري «إحنا اللي صبغنا الهوا دوكو»، من الجيد أن احداً لم يتهم المصريين بشيء ـ وقد قُتل العشرات في هذه الهجمات، ولما كنت قد قمت بتغطيات عدة في أوروبا الشرقية، افترض الزملاء أنني خبير بالمنطقة وبمواقع مترو موسكو، وبهذا الدوكو، ويمكن أن أفيدهم على الرغم من أنني لم أخرج من أوروبا الشرقية سوى بـ«خراشو» و«سباسيبه».
اللافت للنظر في الموضوع هو كم الاتصالات والشجب والمقالات التي سن سيوفها كتابنا ومراسلونا ومحللونا السياسيون وعلماؤنا الأفاضل على الذين يحاولون تشويه سمعة الإسلام، وهم صادقون في هذا. ولكن لماذا يقل عدد الشاجبين من الكتاب، عندما ترتكب المجازر في فلسطين، لبنان، العراق، وفي أفغانستان؟ هذا سؤال من حقنا أن نسأله!
عرض بعدها بثلاثة أيام فيلم في غاية البشاعة لمجموعة من رعاة البقر الأميركان في العراق الجديد وهم يقصفون مراسلين صحافيين من جلدتنا ومن مهنتنا بدم بارد، قتلوا حتى الجرحى منهم ونسفوا سيارة الإسعاف التي أرادت أن تقلهم، فلماذا يا زملاء القلم لم يتصل أحدنا بالآخر شاجباً ومستنكراً، ونحن نعلم أن أحدنا قد يغادر لتغطية خبرية هنا أو هناك ويكون مكان هذا المراسل؟!
أحد الزملاء قال لي بعد أحداث موسكو «هذا اللي حصلناه من ربعك المطاوعة»! بالطبع لم أجبه فمرتكبو هذه الأعمال لا يمكن وصفهم بالمطاوعة، فهم أبعد ما يكونون عن «الطوع» الذي يحرّم الدم الحرام، ولكن لماذا لم أسمعك ذات يوم تقول لي، هذا ما جنيناه من ربعنا الصفر؟
أنا ضد الإرهاب المرتكب باسم الإسلام، ولكنني قبل ذلك ضد إرهاب الدول التي تعادينا ومعتقداتنا، أنا ضد بن لادن في مغامراته المتهورة، ولكنني قبل ذلك ضد من أنشأ بن لادن، أنا ضد الشباب الذي يحرق نفسه بلا تعقل، ولكنني قبل ذلك ضد من أفقر دولة هذا الشاب وجعله لا يجد وظيفة ولا عدلاً ولا مستقبلاً إلا لدى الآخرين.
وكصحافي لا أزال أحبو في بلاط صاحبة الجلالة..
أنا ضد إخفاء الحقائق..
ولكنني قبل ذلك ضد نشر نصف الحقائق والصمت عن النصف الآخر..
الأهم.