الصحافة ستفجّر الكوكب!!
«قادس» أو «قادش»، سواء كان أصل هذا الاسم عربياً أو أندلسياً أو إسبانياً، لا يهم كثيراً، لكن المهم أن هذه المنطقة التي تعد من أجمل مناطق جنوب إسبانيا، وتقع في إقليم الأندلس أو «أندلوسيا»، تشهد هذه الأيام اجتماعات وانتخابات الاتحاد الدولي للصحافة، وبمشاركة أكثر من 300 صحافي جاؤوا من 100 دولة، للمشاركة في «الكونغرس» السنوي للصحافيين.
اختيار مدينة «قادس» لم يكن عشوائياً للاجتماعات، فإسبانيا بأسرها تحتفل الآن بمرور 200 عام على كتابة أول دستور لها، وبالطبع فهو من أول الدساتير التي كُتبت في العالم كله، إذ تم ذلك عام ،1810 وكتابة الدستور الإسباني واعتماده، تمّا في قاعة البرلمان، وهي ذاتها التي يلتقي فيها اليوم الصحافيون لمناقشة مستقبل الصحافة والتهديدات التي تواجهها خلال السنوات القليلة المقبلة.
الإسبان لا يفرّقون أبداً بين الحريات العامة التي تضمن المساواة والعدالة الاجتماعية وإحقاق دولة الحق والقانون، وبين تكريس حرية الصحافة، بل إنهم يؤمنون تماماً بأن لا حرية في المجتمع من دون حرية الصحافة، وهذا ما أقرّه دستورهم الذي كُتب قبل 200 عام، حين كرّس بنداً خاصاً بحرية التعبير والطباعة، ومن خلال هذه المادة الدستورية، التي شكلت الحجر الأساس في تشييد مفاهيم حرية الرأي والتعبير، وحرية الصحافة، انطلقت الصحافة الإسبانية لتمارس دورها التنموي والتطويري في أنحاء المملكة المترامية الأطراف، ما يلفت النظر إلى أن الحكومة الإسبانية، لم تشعر بالندم وبعد مرور 200 عام على إعطاء الصحافة حريتها، وكانت الكلمة التي ألقتها نائبة رئيس وزراء إسبانيا «تريزا فرناندز» خلال افتتاح المؤتمر معبّرة جداً، وأكدت فيها نقطة في غاية الأهمية، إذ قالت: «كثيرون يعتقدون أن حرية الصحافة تضر أكثر مما تنفع، لكننا وجدنا العكس، فالمجتمع لا يمكن له أن يتطور من دون صحافة حرة ومسؤولة، ومن أجل ذلك رفع الإسبان القيود عن الصحافة منذ عام ،1810 وأعتقد أننا اليوم مدينون كثيراً للصحافيين الذين ضحوا بأن يكونوا صوت من لا صوت له، وهو الأمر الذي جعل العالم أكثر عدالة».
وبكل تأكيد فالصحافة تنفع لا تضر، ومع ذلك هناك تخوف منها، وهناك هاجس يجعل الكثيرين يتعاملون معها بحساسية شديدة، مبالغ فيها في كثير من الأحيان، لأنهم يريدونها على مزاجهم وأهوائهم، ويريدونها أن تكون صوتهم، بدلاً من أن تكون صوت من لا صوت له!
لكن المستقبل سيكون أكثر تعقيداً وصعوبة على من يريد التحكم في الصحافة، فالأمر لن يكون مجدياً، وهذا ما أكده المؤتمرون في «قادس» الإسبانية، فمجتمع المعرفة الحالي مهدد بأن يكون مجتمع «اللامعرفة»، وذلك بعد انفجار الوضع المعلوماتي، وتعدد أوجه وأساليب النشر عبر كثير من التقنيات الحديثة، المعروفة وغير المعروفة، ما تم طرحه منها، وتلك التي لاتزال تحت الاكتشاف، هذا الانفجار سيلغي الحدود بين الصخب وحرية الرأي، وبين المعلومات الحقيقية والأكاذيب، وهذا التداخل والخلط المتوقع بين حدود الحقيقة والكذب لن يكون مجدياً لاستمرار تكتيم الصحافة من قبل الحكومات، وهو الذي سيعمل على تغيير الكوكب، وبالتالي فعلى الجميع الاستعداد للتعامل مع تلك المرحلة الصعبة وغير البعيدة، على الجميع البحث عن وسائل أكثر نفعاً لتطوير العمل الصحافي وإبقائه قوياً، و«الجميع» هنا تعني الحكومات والصحافيين، لأن الحكومات حينئذ ستتضرر من ضعف الصحافة قبل الصحافيين أنفسهم!