أبواب

الثقافة الشعبية والتعدّدية

يوسف ضمرة

لم تعد ثمة ثقافة واحدة في المجتمعات على اختلاف أماكنها. بل يمكن القول إن التعددية الثقافية أصبحت سمة حاضرة حتى في الحواضن الاجتماعية الصغيرة، كالجامعات والأحزاب وحتى في العائلات. وهو ما يشير إليه علماء الاجتماع على اختلاف انتماءاتهم وثقافاتهم.

وإذا كانت التعددية الثقافية طالت هذه الحواضن الصغيرة، فإن الفوارق الثقافية الأساسية بين الأطراف والمراكز في المجتمعات، تلعب دوراً أكثر وضوحاً في بروز التعددية الثقافية في المجتمعات.

فآثار العولمة الثقافية وبصماتها، تبدو في المقام الرئيس واضحة في المراكز والمدن الرئيسة، حيث الاحتكاك الأكبر واليومي بالثقافات المغايرة، بالنظر إلى توافر وسائل الاتصال الحديثة في هذه المراكز والمدن، وبالنظر أيضاً إلى التواصل المباشر بين هذه المدن والوافدين الأجانب أصحاب الثقافات المغايرة.

أما الأطراف والتخوم، فإنها تظل في منأى عن تأثير العولمة الثقافية، بالنظر إلى ندرة توافر وسائل الاتصال الحديثة، ما يعني تقلص حجم التعددية الثقافية التي نتحدث عنها. ويبدو هذا جلياً في الاستخدام المتناقض للغة بين المراكز والتخوم، إضافة إلى التناقض في العادات والملبس والمأكل. فبينما يتنامى اعتماد الناس في المراكز والمدن الرئيسة على الوجبات السريعة، والطعام الأجنبي الواصل مجاناً إلى البيوت، نجد الناس في الأطراف والتخوم يحافظون على أنماط معيشتهم التقليدية. وبينما تختلط اللغة العربية اليومية في المراكز باللغات الأجنبية، نرى الأطراف والتخوم محافظة على اللغة اليومية المتوارثة. بل يمكن القول إن اللهجات في الأطراف لاتزال تحافظ على هيمنتها، في الوقت الذي أخذت تختفي في المراكز والمدن الرئيسة، بالنظر إلى وجود تجمعات ثقافية بارزة كالجامعات والمعاهد والمصارف والشركات الكبرى.

هذا كله يعني أن التعددية الثقافية أصبحت أكثر بروزاً في الحواضن الصغرى، ولم تطل الأطراف والتخوم. وهذا يعني أن الأطراف والتخوم تمتلك فرصة الحفاظ على السمات الأساسية للثقافة الشعبية. أي أن الثقافة الشعبية هنا ليست محصنة ضد الثقافات الأخرى، لكنها ظلت في منأى عن تأثير تلك الثقافات، ما يعني أنها لم تخضع لاختبارات البقاء والصمود، كما هي الحال في ثقافات المراكز والمدن الرئيسة. ولعله من حسن الطالع أن تكون الثقافات في الأطراف بعيدة عن تأثيرات العولمة الثقافية، حيث يعني ذلك أن الثقافة الشعبية تمتلك فرصة البقاء، والحفاظ على جوهرها، بكل ما تمتلك من قيم ومفاهيم إنسانية نبيلة أو موضع انتقاد. فغالباً ما تتصارع القيم والأفكار في الثقافة الواحدة، وهو أمر طبيعي ينطوي على العزل والاختيار. أي أنه لا خوف على الثقافة الشعبية من انتصار القيم محط الانتقاد أو عدم الرضا. كما أن الحكم على قيمة ما في الثقافة الشعبية لا يتأتى من ثقافة مغايرة للثقافة الشعبية، مقدار ما يؤدي إليه الصراع الثقافي في المجتمعات.

وباحتفاظ الثقافة الشعبية بالكثير من سماتها في الأطراف والتخوم البعيدة، فإن ذلك يعني الحفاظ على احتياطي هائل في رصيد الهوية المهددة بالتأثير والتغيرات الطارئة. أي ان الثقافة الشعبية تشكل في ظل العولمة الثقافية تحصيناً قوياً ضد اختلال الهوية أو ضياعها. لكن هذا ليس هو الدور الوحيد الذي تلعبه الثقافة الشعبية في المجتمعات، حين نعلم أن الثقافة الشعبية تمتلك مقدرة فائقة على التأقلم مع المتغيرات الثقافية المستجدة، وهذا ما يحتاج إلى وقفة ثانية.

damra1953@yahoo.com

 لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

تويتر