التغول الإعلاني
العالم القائم على الربح و«توريم» رأس المال لا يتوانى عن استخدام السبل كافة لزيادة رصيده الحسابي، وذلك بغض النظر عن أي تشويه يمكن أن يفعله في الذائقة البصرية عموماً. ومن يتابع بنية تشييد أي مشهد إعلاني لابد أن يلاحظ أن الإعلان في العالم صار يحتل الطرق والجسور والأنفاق وواجهات البنايات، بحيث تحول التسليع الإعلامي في المشهد المعماري القائم في أي مدينة أو عاصمة كأنه هو سيد الذائقة البصرية، وهو الذي يحتل المشهد ويتسيد فضاء المدن والعواصم.
والإعلانات التي صارت معولمة هي الأخرى، تظل كامنة بانتظار أي حدث عالمي حتى تبدأ عبقريتها الإعلانية بالتدفق الاحتلالي لكل الأمكنة في مدن العالم وحواريها.
وفي الوقت الذي يقدم الإعلان نفسه وهو في غاية التهذيب والأناقة، يكون عملياً يسعى إلى طمس الحدث الذي ينمو على ضفافه ليبرز صفته السلعية.
ولقد كشفت مباريات كأس العالم التي تقام حالياً في جوهانسبورغ عاصمة جنوب إفريقيا عن عبقرية إعلانية عالمية استطاعت أن تشمل جميع السلع الحياتية الاعتيادية التي يستعملها البشر.
وعلى الرغم من عدم وجود أي علاقة منطقية بين تناول الوجبة السريعة ومباريات كأس العالم، فإن مصممي الإعلان يختارون أحد نجوم الكرة العالمية، وهو يقايض صبياً كي يبادله كرة كأس العالم بوجبة سريعة.
والأمر ذاته ينطبق على تسويق المشروبات الغازية في إعلان يريك نجم الكرة العالمية الذي يتخلى عن وضع أهدافه الكروية في المرمى، مقابل أن يضع فمه على زجاجة باردة من تلك المشروبات ويشرب وهو يتصبب عرقاً أو فرحاً.
والملاحظ أنه ما من سلعة ؤلا وقد حصلت على حظها الإعلاني الذي استغل مثل هذه المناسبة العالمية، والأمر الإعلاني قاد الأمور إلى أن تبث المباريات حصرياً في بعض الفضائيات، وهذا يعني ببساطة أن تنفرد هذه الفضائيات ببثها الحصري بإعلانات خاصة بها، تبث في اللحظة الحرجة المناسبة والمشوقة، وبالطبع يتبع ذلك اشتراكات ببطاقات تصرفها تلك المحطات لتبث المباراة لك دون سواك.
والمشكلة الإعلانية على الرغم من بساطة الإيقاع في طرحها وتناولها، تكشف أن عالمنا الربحي هذا ما إن يستكمل حادثة المتن حتى يبدأ بنسج خيوطه الهامشية التي تبدو أحياناً وكأنها تخنق المتن ذاته، ويبدو الهامش في النهاية هو القادر على الاستقطاب والوجود ومتابعة المشاهدة أكثر من المتن ذاته.
ويبدو أن مثل هذا الاحتيال الذي يمارسه الهامش على المتن لا ينحصر في مباريات كأس العالم فقط، بل في كل المناسبات، حيث الهامش الطحلبي يأكل حواف المتن ويصادره تماما!
ذلك أننا نعيش في زمن التغول الإعلامي القادر على طمس كل شيء. والقادر على «تشييء» الأشياء و«سلعنتها» بمهارة نادرة، وجعلها تحتل مشهدنا الحياتي.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .