الحلم والزنزانة «2-2»
أصدرت الأمانة العامة لدمشق عاصمة الثقافة العربية/2008 سلسلة «أعلام الأدب السوري» عن كتاب الشعر والرواية والقصة والمسرح والشعر، وصدر من بينها كتابان: «أدونيس.. عراف القصيدة العربية» للدكتور عابد إسماعيل، و«محمد الماغوط.. سنونو الضجر» للكاتب خليل صويلح. ومع أن كلاً من الشاعرين يختلف في إبداعه، تماماً، عن الآخر، إلا أن كلاً منهما نشأ في عائلة فقيرة وانتمى إلى الحزب القومي السوري، ودخل السجن، وزرع في حديقة مجلة «شعر» كتابة إبداعية متمردة، أصابت عدواها شعراء آخرين، ولعب كل منهما، بصورة مختلفة، دوراً ريادياً في رحلة الشعر العربي الحديث وفي تغيير معنى التذوق الشعري، كما أن معظم النقاد عدّوا أدونيس رائداً للشعر المعاصر ومستكشفاً للحداثة العربية وناطقاً أكثر فصاحة باسمها، وعدّوا الماغوط، أيضاً، وجهاً آخر لعاصفة الحداثة، وأباً شرعياً، دون منازع، لقصيدة النثر العربي.
الزنزانة
لم يذهب الماغوط إلى مجلة «شعر»- يقول- بل جاءت هي إليّه «ليس لأسباب ثقافية أو مذهبية، إنما لأني لم أكن أملك لا أجرة التاكسي ولا السرفيس لأذهب إلى مقر المجلة في (رأس بيروت) وحققت لي، في البداية، إيصال صوتي إلى الآخرين».
منحت إذن، بيروت نص الماغوط شرعيته وبريقه، رغم وجود أباطرة الحداثة في مشروع مجلة «شعر»، لكن الماغوط لم يُنّظر للقصيدة كأدونيس، ولم يقرأ الشعر الفرنسي وأدار، هكذا، ظهره للتراث وحمل معه غرفة مسدلة الستائر اسمها الشرق الأوسط، وأصر على تغيير واقع المأساة بخاتم لبيك الشعر، سر موهبته الفطرية، وقاده حدسه الفطري إلى جوهر الشعر وإلى روحه الداخلية.
«في المجلة كنت أسمع أحاديث عن شعراء لا أعرفهم، باوند واليوت وسوزان برنار وكنت أصمت وعندما يحضر الطعام آكل، كنا أنا وانسي الحاج أكثر صمتاً في جلسات المجلة، كنا نستمع ونصغي لما يُقال، وكنت أكثر المستمعين رفضاً لما يُقال». كانوا يكتبون في المطلق وحاولت أن أسحبهم إلى الأرض، بكل ما فيها من ارصفة وتشرد وحطام، أحاول أن أرغمهم ليعودوا من الفضاء إلى الأرض، لكني بقيت طارئاً لأنني شاعر أزقة ولست شاعر قصور».
«كانت مشكلة نخبة المجلة في استغراقهم بتحطيم السفينة، دون أن يفكروا بالغرق. قل لأحدهم ثلاث مرات المتنبي، فيسقط مُغمى عليه. قل له على مسافة كيلومتر جاك بريفيير فينتصب ويقفز عدة امتار عن الأرض، كأنه شرب حليب السباع».
«مجلة شعر كانت قطاراً أقل مجموعة من شعراء يشتركون في همومهم الحياتية وفي هواجسهم الإبداعية، وحينما توقف القطار ذهب كلّ منهم في حال سبيله:
طفولتي بعيدة وكهولتي بعيدة/ وطني بعيد ومنفاي بعيد/ ايها السائح اعطني منظارك المقرّب/ علّني ألمح يداً أو محرمة في هذا الكون تومئ إليّ/ صوّرني وأنا ابكي وأنا أقعي بأسمالي أمام عتبة الفندق/ وأكتب على قفا الصورة/ هذا شاعر من الشرق.
لم يكن الماغوط يجيد التنظير مثل أدونيس: «لست خبيراً زراعياً، كي أقول ما نوع هذه الشتلة وكم تحتاج إلى أسمدة كي تحيا. لم أكن أعرف أنني أؤسس شيئاً أو أهدم لغة، لكني اكتشفت، من خلال أقوال النقاد والشعراء، ومن بينهم نزار قباني وأدونيس، انني وانسي الحاج اول من حاول تأسيس شيء جديد». إن شاعراً في مجتمع سواده الأعظم يعاني الإرهاب والجوع ومساوئ الحياة هو شاعر محرض وكاشف:
وأنا أكتب/ لا أترك فراغاً.. أي فراغ على الهامش/ أو بين السطور/ أو في الزوايا/ لأن أكثر من احتلال سيشاركني هذه الصفحة/ الإعلام. التموين. الدفاع. الأمن. الداخلية. الخارجية. الري. القضاء/ وعلي أن أستعد للمواجه.
تكتب الشاعرة سنية صالح، زوجة الماغوط، إنه من أبرز الثوار الذين حرروا الشعر من عبودية الشكل ونجت عفويته من التحجر والجمود». لكن الماغوط يقول: «أنا أكتب من تحت النعال(...) وأنا أشعر بالموت إذا لم اكتب، فأنا مثل سجين، ظلّ يحفر نفقاً في زنزانته لمدة عشرين عاماً ثم اكتشف أن النفق الذي حفره يقوده إلى زنزانة أخرى».
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .