الثقافة العنصرية
بعد خروج الاستعمار من بلدان العالم الثالث، ومنها العربية بالطبع، كانت هنالك بنية اجتماعية متشكلة، قادرة على بناء نظام سياسي طبقي فوقي، لانزال نعاني آثاره حتى اليوم. وهذه البنية مكونة من الإقطاع والقواعد الأساسية للبرجوازية.
ولكي تكون هذه البنية الاجتماعية قادرة على تحقيق الهدف، كان لابد من بنية ثقافية، تقودها شريحة من المثقفين، دعيت بشريحة «الإنتلجنسيا».
هذه «الإنتلجنسيا» كانت بالضرورة الاجتماعية/الاستعمارية، ابناً شرعياً لتلك البنية الاجتماعية، حيث مستوى الأمّية في الطبقات الدنيا كان يلامس الـ100٪.
كانت هذه الشريحة الثقافية هي التي شكلت الأحزاب السياسية في أغلبية بلدان العالم الثالث، وكان من الطبيعي أن تكون البنية السياسية الناجمة بنية فوقية، حريصة على مصالح الطبقات العليا، ومهمشة مصالح الطبقات الدنيا. وبمرور الوقت، أصبح هنالك تمايز اجتماعي ثقافي كبير، يصل إلى حدود العنصرية، من حيث نظرة هذه الشريحة الفوقية إلى الطبقات الدنيا في المجتمع.
وفي هذا السياق، برزت الطائفية في بعض بلدان العالم الثالث، ركيزةً أساسيةً في النظام السياسي الاجتماعي. وتم في سياق طبقي تهميش بعض الطوائف، وتسخيرها في خدمة الطوائف الفوقية التي استمدت فوقيتها من المستعمِر نفسه.
وما يحدث اليوم في لبنان، من مناقشات ساخنة حول ما يسمى «الحقوق الإنسانية للفلسطينيين»، واصطفاف مكونات طائفة كاملة ضد هذه الحقوق، هو استمرار لتلك الثقافة العنصرية. فالفلسطيني ضمن هذه البنية الثقافية القائمة، سيعاني الجوهر العنصري لهذه الثقافة الطبقية/الطائفية. وسيعاني أكثر من الطبقات اللبنانية الدنيا، لأن تلك الطبقات تشكل احتياطياً جماهيرياً في المنافسة السياسية، الأمر الذي لا يتوافر للفلسطيني.
وسيأتي من يخبرنا اليوم، أن «الإنتلجنسيا» العربية، لم تعد حكراً على الطبقات العليا، وهذا صحيح شكلياً. لكن المثقف في بنية مثل هذه، يسعى إلى الاندماج ثقافياً في هذه البنية السياسية والاجتماعية والثقافية، حيث يدرك هذا المثقف أنه بين خيارين، إما التهميش والإقصاء أو الذوبان في الشريحة الثقافية الأصلية التي تمهد له سبل الوصول إلى المراكز والمناصب العليا. ولهذا لم يكن مستغرباً أن يتحول الكثير من مثقفي اليسارالعربي عموماً، عند أول امتحان وجودي، إلى الدفاع عن تلك الطبقات العليا.
وبالطريقة ذاتها، انضم هؤلاء إلى تلك الطبقات في تهميشها الفلسطينيين، وفي محاصرتهم في «غيتوات» لا تصلح للحياة البشرية، متسلحين بذريعة منع التوطين في لبنان. وهم يكررون أن هنالك مشروعاً أميركياً ـ أوروبياً لهذا التوطين. وكأن هؤلاء المثقفين قادرون حقاً على التصدي لمشروع أميركي ـ أوروبي، أو حتى راغبون في ذلك!
هذا مجرد تجل للثقافة العنصرية في الوطن العربي. وهي ثقافة استعمارية في المقام الرئيس، حيث الاستعمار يشكل أعلى درجات العنصرية، وتشكل أدواته ودوائره استمرارا لهذه الثقافة. فلا حق العمل ولا حق التملك، يشكلان مقدمة للتوطين، لأن الفلسطينيين ـ شأن الشعوب الأخرى ـ غير معنيين بتوفير بدائل لوطنهم.
فهل يعقل أن تمنع شخصا من مزاولة مهنة الطب مثلا، وتستغرب من يقوم بتوصيف هذه الثقافة في الحد الأدنى بالعنصرية؟
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .