الوقت الضائع
يظن كثير من الناس أنه يملك أمر نفسه، فيتصرف في وقته الذي منحه الله تعالى إياه وفي ماله الذي خوله الله تعالى كما يحلو له.. وهذا في الحقيقة قصور في الفهم والإدراك، ذلك أن وقت المرء هو أنفس ما يملك، وأعز ما يستهلك، فهو عمره المنشود ومطيته لليوم الموعود، وهو الصندوق الذي يكنز فيه الحسنات أو السيئات، أو الذي يبقى فارغاً من خير يكسب أو شر يحصد، وفي ذلك يقول بعضهم: والوقت أنفس ما عنيت بحفظهأأأ ... وأراه أسهل ما عليك يضيع
نعم الوقت هو العمر الذي إن مضى فات، وإن استثمر فيما ينفع كان زاداً لما بعد الممات، وعنده يبقى له العمر والذكر، ولا يغبن به ولا يندم، كما يندم كثير من الناس، الذين قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ»، والمعنى أن كثيراً من الناس فقدوهما وغبنوا فيهما، إذ كثير منهم لا تجده إلا مشغولاً بدنيا أو مفتوناً بهوى، أو مريضاً مبتلى، ومفهوم الكثير أن القليل من الناس رزقهم الله الصحة والفراغ فإن عمروهما بطاعة مولاهم، فقد شكروا وربحوا ربحاً عظيماً، وإن ضيعوهما فقد خسروا خسراناً مبيناً، وكفروا بهاتين النعمتين، فجدير أن تسلبا عنهم، وإذا سلبت النعمة فقلما تعود، وإن عادت فلا يكون حالها كسابقها، بل لابد أن يكون فيها دخن كبير. أقول هذا وأنا أعتصر أسىً على من لا يبالون بهذه النعم التي يرفلون فيها، وأجلها بعد نعمة الإسلام نعمتا الصحة والفراغ، فصحتهم تهدر فيما يضر ولا ينفع، من لهو باطل أو عمل بائر، وفراغهم لا يزجى إلا في القيل والقال، وإضاعة المال، ولا يفطن أحد إلى أن النعمة صيدها وقيدها شكر المنعم المتفضل، بصرفها فيما خلقت لأجله، لا إلى ما يضر بدينه ودنياه، فما قيمة حياة لا تعمر بطاعة الله تعالى التي يتمتع بها المرء في الدنيا بالرضا، والطمأنينة والأنس بالله تعالى، والقناعة بما أولى وأنعم؟ فهذه هي العمارة التي يتزود بها المرء للدار الآخرة التي إليها المصير والمنقلب، وما يعيش المرء في هذه الحياة إلا عيشة المسافر الذي ينشئ السفر من بلد ويتهيأ للوصول إلى آخر، والمسافر لا يقطع المسافة إلا بزاد وراحلة، وإلا كان ساعياً لتلف نفسه في البراري والقفار، ولا يجد من يرحمه، لأن كل واحد يخشى على نفسه مثل ذلك المصير، فكلهم يقول: نفسي نفسي، وقد كان الإمام علي رضي الله تعالى عنه، إذا دجى الليل قام وناجى ربه وتململ تململ السليم (المريض) ثم يخاطب الدنيا وقد ولي أمرها: «إلي تغررتِ، إلي تشوفتِ، هيهات هيهات، غري غيري، قد بتَتك ثلاثا، فعمرك قصير، ومجلسك حقير، وخطرك يسير، آهٍ آهٍ من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق»، هكذا يقول العارفون الذين يستشعرون قول الحق سبحانه {وَتَزَودُوا فَإِن خَيْرَ الزادِ التقْوَى وَاتقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}.
ومع ذلك لا ينسون نصيبهم من الدنيا، بل يأخذون منها ما يبلغهم منها المراد على وجه ما شرع الله رب العباد، كما يكون من الأنبياء والأتقياء الذين يصدق عليهم قول القائل:
فلا هوَ في الدنيا مضيعٌ نصيبَه ... ولا عرض الدّنيَا عن الدين شاغِلُه
كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .