أبواب
ويأتي رمضان
ويأتي رمضان بقامته القمرية يأخذني من ضجيج العائلة التي أنتجتها قواي المقترحة، إلى العائلة النواة الأولى، حيث التنوع الخصب في المشاهدة الأولى لإيقاع رمضان في الزمن، وتجليه الإيماني الذي كان يجعلنا نشعر بأن السنة الهجرية الأولى هي قاب قوسين أو أدنى، وأن الأنبياء والصحابة والصلاح يجتمعون في بيتنا مع كل غرة رمضان والإعلان عنه، ويقمون بيننا وحتى نهاية الشهر.
يأتي اليّ والدي الذي ما عاد حياً أراه وهو ينهض من نومه كي يتناول سحوره ويمد أصابعه إلى المذياع وهو يبحث عن التسابيح الدينية التي كانت تقام في المسجد الأموي، أو في الأزهر.
نعم ينهض والدي من قبره بخاكيه المشبع برائحة كد السوق وتعب الباعة عند ازدحام الأرجل، وأراه وهو يقف في منتصف غرفة العائلة الكبيرة وأنا أغالب النوم في انتظار سماع صوته وهو يترنم بقراءة قصار السوّر القرآنية بصوته الجميل، وكيف كان صوته هذا بإيقاعه القرآني يأخذني الى عتمة فجرية محببة.
ويأتي رمضان وأعيننا المتجاورة في الفراش المتاح ترقب همة الوالدة في انهاضنا من نومنا لكي نتسحر مشددة على ان من تخنه قواه ويفطر عامداً متعمداً لن تعاود إنهاضه في اليوم التالي، لا بل ستكون بخيلة في منحه أي طعام.
وكنّا ننهض ونلتف حولها كحبات المسبحة ونحن نمضغ الطعام النائم، محاولين التلذذ بتلك اليقظة التي تجعل الفجر يلقي بضوئه الأزرق على الفراش والخزانة المتواضعة، وكنّا بعد ذلك نتمتع بمراقبة والدتنا الأمية وهي تنطق الآيات القرآنية بإيقاع الكلام الذي تتحدث فيه لكن دونما أي خطأ.
كان رمضان في تلك الصباحات يقف عند بوابة الدار وهو يظلل درجات الدار وتلك الدالية التي تتناوب عليها الفصول وعلى تلك الياسمينة النائمة بعبقها الشهي على سور البيت.
كان رمضان يتوعد خروجنا بسحننا الطفولية التي كنّا نبذل جهداً خاصاً كي يرأف بنا المكان وأناسه، وكنّا نتمتع بتلك الكبرياء المباغتة التي كانت تمنحنا القوة كي نشيح بوجوهنا عن البضائع الشهية لبقال الحارة.
يأتي رمضان كي يعيدنا الى الفصل المدرسي وتلك الرائحة المُزمنة لخشب المقاعد المدرسية، وذاك العرق الطفولي الذي تطلقه اجسادنا الغضة وهو يختلط برائحته مع رائحة ذاك العطر الساذج الذي كان يزكمنا به مربي الصف.
وحينما كنّا نقع في المساحة النهارية لرمضان كنّا نتابع تلك الصغيرة بشعرها المربوط على هيئة ذيل فرس، وهي تتحاشى النظر الينا محاولة اغلاق كل نوافذ بيتها، وكان هذا يوقعنا في القنوط واليأس من محاولة استدراجها لابتسامة.
يأتي رمضان كعلامة زمنية تجعلني أعود إلى تقويمي الشخصي وأحصي حجم خسائري وعدد موتاي، تجعلني وسط ضجة عائلتي وفي لحظة الإفطار تحديداً أهمس «يا للحسرة.. ما اكبر حجم الخسائر يا رمضان».
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .