التمرد الدائم
تكاد تكون أبحاث المفكر الدكتور أحمد البرقاوي ملازمة لما نعيشه الآن من رداءة أوضاع فكرية وسياسية تجعلنا نكرر مقولته البليغة بلا تردد «إن الانحطاط يعبرعن نفسه». البرقاوي صاحب السؤال الدائم لماذا لم ننتقل من النهضة إلى الحداثة؟ كان ولم يزل يجرد مفهوم النهضة بوصفه مفهوماً عاماً كلياً من خلال التجربة التاريخية الغربية، ليؤكد أن الحداثة الغربية أدت إلى انتصار الرأسمالية في حين أن النهضة العربية المزعومة لم تمتلك إلا وعياً طوباوياً بالعالم خارج علاقات المجتمع التاريخي، ولهذا سهل على الغرب السيطرة على عالمنا وتحويلنا إلى منطقة تمد الرأسمالية الأوروبية بأسباب قوتها الاقتصادية.
وبناء على رؤية البرقاوي يتضح أن الإصلاح الديني الذي بدأ بمرحلة الأفغاني ومحمد عبده كان مجرد محاولة لجعل الإسلام يتلاءم مع مطلبي العلم والديمقراطية، وقد انتهت هذه المحاولة في مكانها وزمانها وتقطعت جذورها مع الحراك الاجتماعي لأسباب كثيرة منها أنه لم تتمرد ولم تتحول إلى وعي جديد بالعالم على مستوى البشر.
أما اللافت في دراسات البرقاوي فيكمن حتماً في وقوفه على هوة التناقض بين الوعي والواقع بمعنى أن الوعي يظل ثاوياً في عقول منتجيه، وأن الواقع الصلد لا يتغير ولا يمتثل لإرادة التنوير.
إن ميزة البرقاوي كمفكر تكمن في صرخته «أريد أن أفضح العالم»، كما تكمن في قربه من الشارع العربي واعتقاده الراسخ أنه في صميم المشكلة التي يعيشها العرب، ولهذا يكتب لكي يؤكد المكانة والموقع، مركزاً على ضرورة التمرد على الوضع العام - أي التمرد على غياب الحرية والاضطهاد الكلي - من غير أن يكتفي بالتمرد المرحلي، بل إنه يصر دائماً على ضرورة أن يظل الإنسان متمرداً حتى لو تحققت أهدافه في الأرض.
فالتمرد عند البرقاوي هو الحرية، والحرية هي التوزيع العادل للقوة خصوصاً أنه يبين لنا أن النكوص التاريخي الذي نعيشه الآن يكمن في «انهزم شرط ظهور الأنا وولادته»، وهذا يعني أن علينا أن نعمل جاهدين كي تنشأ هذه الفئات الواعية لذاتها بوصفها أنوات وليست قطيعاً.
بيد أن البرقاوي الذي يؤمن بأن التنوير ليس ايديولوجياً، بل معنى للحياة ما انفك يحث الإنسان العربي على ضرورة عدم الانسحاب من الحياة المجتمعية، طارحاً فكرته حول الإنسان بمفهومه الأقوى والأوسع والأشمل من ذاك الإنسان الذي ينشغل بتحسين وضعه المعاشي أو يناضل من أجل ترقية مهنية، مقدماً جملة من النماذج حول ضرورة الإنسان الذي يهجس بالهم العام وفكرة الإبداع لكي يصبح جزءاً من أناك وتصبح جزءاً من أناه بلا عصبية قبيلية أو دينية أو سياسية أو قومية أو مناطقية أو عرقية، لأن العصبية عنده تصاغ في إيديولوجيا نافية للآخر.
وأخيراً لن ننسى أن البرقاوي يكاد يكون من أكثر المفكرين العرب ايماناً بثقافة الحوار، ولطالما كتب وقال إنه ليس مصادفة أن أفلاطون وهو يعالج أعقد المشكلات الفلسفية قدمها لنا في جملة من الحواريات، مبيناً أن الحوار هو تجاوز للوعي وامتلاك العالم معرفياً.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .