أبواب

الهدم والبناء

يوسف ضمرة

لا يوجد جنس أدبي أفضل من سواه، ولكن معطيات ثقافية معينة في مرحلة ما، هي التي تغير في ترتيب الأجناس جماهيرياً وثقافياً.

فبينما كان الشعر العربي حتى وقت قريب، يحرك الشارع ويشعله حماسة، رأينا كيف تربعت القصة القصيرة على عرش الأجناس الأدبية منذ أواخر الستينات إلى أواخر الثمانينات، قبل أن تنتفض الرواية انتفاضتها المستمرة حتى اليوم، ولا نعلم إلى أي حد ستصل.

غير أن من الضروري لنا أن نذكر أنه ليس بالضرورة أن يكون الجديد والمغاير والمختلف إنتاجا أكثر جودة أو أهمية من سابقه.

هذا الكلام يقودنا إلى مقولة ماركوز في الهدم والبناء. فهو يؤكد أننا لا نستطيع بناء الجديد من دون هدم القديم. وهدم القديم هنا لا يعني محوه أو إقصاءه أو التنكر له، مقدار ما يعني تجاوزه. وبناء الجديد لا يتحقق في المضامين والشعارات، ما لم يتحقق أولا في الشكل. ويعتبر «هيربرت ماركوز» أن شعراء من طينة رامبو وبودلير كانوا أكثر ثورية من شعراء صرخوا بالثورية في أشكال شعرية تقليدية، ذلك أن بودلير ورامبو حطما البنية التقليدية أولاً للقصيدة، ما يعني بالضرورة طرح أفكار ومفاهيم وأسئلة لم تكن القصيدة التقليدية معنية بها من قبل.

وهذا الكلام ينطبق على مراحل الشعر العربي، حيث حطم الشعراء الصعاليك بنية القصيدة التقليدية التي بلغت أعلى مراحلها في المعلقات، وهذا التحطيم كان يستوجب بالضرورة طرح أفكار ومفاهيم وأسئلة جديدة، والتركيز على قيم لم تكن متداولة في القصيدة التقليدية، وحين جاء الإسلام تحطمت البنية السابقة أيضا، واستمرت الحال إلى أن وصلنا إلى الخروج على قواعد الخليل بن أحمد.

كانت كل عمليات الهدم للبنية التقليدية، تعني حكماً ملامسة أفكار ومفاهيم جديدة في الأدب، ومن هنا يأتي تركيز ماركوز على عملية الهدم في الكتابة الثورية، فهل نحن الآن نفعل الشيء ذاته؟

يتطلب الأمر مغامرة في الجوهر، وهذا يعني إيمانا حقيقيا بالكتابة الثورية، أي التغييرية الشاملة، وقد فهم ذلك عدد من الأدباء العرب في الستينات، فظهر زكريا تامر في القصة القصيرة، وعدد من الروائيين الجدد في مصر، من أمثال عبدالحكيم قاسم وصبري موسى وإبراهيم أصلان ومحمد البساطي وغالب هلسا وجمال الغيطاني، وظهر في الشعر محمد عفيفي مطر وأمل دنقل وآخرون. وقد تمكن هؤلاء من تهديم البنى التقليدية في القصة والرواية والشعر، ما أنتج أدبا جديدا مغايرا، ملامسا هواجس الإنسان وأحلامه كشخص يشكل هوية قائمة. بعد أن كان الأدب يتطرق إلى القضايا العامة بشمولية وشعاراتية وخطابية.

لقد تمكنوا من ملامسة الهواجس الإنسانية الفردية/الجمعية في آن واحد، وهو ما شكل تحولا قويا في مسار الكتابة العربية.

وبالعودة إلى انتفاضة الرواية العربية الجديدة، فإننا في الوقت الذي نرى البنية التقليدية تتحطم على أيدي عدد من الروائيين، نلحظ عودة إلى هذه البنية عند عدد آخر منهم، وليس هذا أمرا مفاجئا، ولكنه أمر طبيعي يتماشى مع منطق التاريخ، حيث يتجاور القديم والحديث، تماما كتلازم الهدم والبناء، غير أن ما نخشاه هنا، هو أن منسوب المغامرة في الكتابة العربية ربما يتأثر سلبا في ظل معطيات الواقع الاجتماعي، الذي نرى فيه ارتدادا قويا إلى الماضي في مفردات الحياة كلها.

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر