أبواب
تعفن الهواء
في كتابه البليغ «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي» يذهب الفيلسوف والمفكر ميشيل فوكو، متقصياً كل الأحوال التي كان يتم فيها القبض على المجنون وايداعه دار الحجز التي كانت على الأغلب قلعة مرعبة، او بيوتات صارمة في شكلها. ولأن الجنون لم يتجسد تحديده ومعرفته بشكل طبي دقيق، فإن الحجز الاعتباطي كان يشمل المجانين والحمقى والمغفلين، وحتى الشواذ من النساء والرجال، وكل من كان يفكر بالخروج عن الأعراف الاجتماعية السائدة آنذاك.
وبقيت دور الحجز هذه، بحسب ما أشار فوكو، دوراً للقمع والضرب وربما القتل. حتى منتصف القرن الثامن عشر، حيث بدأت تسري الشائعات في دول مثل بريطانيا وفرنسا، ان اجساد هؤلاء المرضى والمجانين المتعفنة والمتقرحة أخذت تتداخل مع الهواء، بحيث اصبح الهواء ذاته متعفناً، وبات يهدد هواء اماكن الحجز العشوائي المناخ العام الذي يتنشقه المواطن البريطاني، وهذا بدوره يهدد بالأوبئة والأمراض الجرثومية، وبناء عليه تم التفكير في هدم هذه المحتجزات، والتفكير في الجنون ولأول مرة بطريقة طبية لها علاقة بالعلوم الوضعية.
الأمر على الصعيدين الكوكبي والأرضي لا يختلف عن مضارعنا الحالي الذي نعيشه في مطلع هذه الألفية الثالثة.
فنحن بدأنا نلاحظ أن عفناً ما بدأ يتغلغل في هواء الكوكب، قد يكون حطّ في هواء كوكبنا بسبب الكوارث المناخية المتتالية ابتداء من تسونامي، مروراً بالانجرافات الطينية في الصين، وانتهاء بالطوفان المائي الذي غمر اقليم البنجاب الباكستاني، حيث استطاعت هذه الكوارث المناخية قتل الآلاف من الكائنات الحية، وغمرها بالمياه والطين إلى حد التفسخ الجيفي والتعفن.
والأمر في كوكبنا يتعدى الكوارث الى كوارث اخرى مثل ثقب الأوزون، الذي تتسع مساحته ليؤدي الى كل هذه الانقلابات المناخية وانهيار وذوبان جبال جليدية، سيكون اثرها المائي مرئياً حين تغرق جغرافيات كاملة بالماء حسب توقع علماء الجيولوجيا عام .2050
والأمر يتعدى ذلك بالزلازل المتلاحقة التي تهدم البيوت فوق رؤوس اصحابها، ولكي يزداد الطين البشري بلة، تنهض الحروب في افغانستان والعراق، وربما ايران قريباً، كي يزداد عدد القتلى من البشر، لنحصد العديد من الموتى والمقابر السرية.
يمكن القول إذاً إن الملح فوق هذا الكوكب الأرضي قد فسد، وان الهواء الذي نتنشقه قد بدأ يستقر فيه العفن، وصار الهواء المجرثم يتشابه مع ذاك الهواء الذي كانت تطلقه الاجساد المتقرحة في اماكن الحجز الأوروبية نحو الهواء.
وهذا ما يجعلنا نقول ان البشرية جمعاء مطالبة بوقفة تأمل لهذا العفن الذي تأصل في الأوكسجين، والذي بات يهدد البشرية ووجودها في آن واحد.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .