الحواضر العربية والأطراف
حين تقدم نابليون بمدفعه باتجاه القاهرة، وهو يصطحب مطبعة، تحولت القاهرة بسبب الطباعة المبكرة، إلى رائدة في المشروع الثقافي النهضوي العربي، وصارت القاهرة محجاً للثقافة العربية، وكان من الصعب على أي مثقف عربي من المحيط إلى الخليج، أن يتعمد، كمثقف تنويري، دون أن تكون القاهرة جزءاً من مشروعه الثقافي.
وتأكد هذا الدور الثقافي والطليعي للقاهرة إبان الحقبة الناصرية، تلك الحقبة التي حملت على عاتقها تطوير الكتاب العربي ونشره ودعم الترجمات الأدبية.
والأمر ذاته ينطبق على حواضر عربية أخرى، كان لها قصب السبق في تفعيل دورها الثقافي الممغنط، لكل من أراد أن يكون اسمه مدرجاً في قائمة الثقافة العربية.
ومن يتذكر العاصمة اللبنانية بيروت منذ مطلع خمسينات وستينات القرن الفائت، ويتذكر إيقاع الثقافة العربية في هذه المدينة، على صعيد الطباعة والنشر والصحافة الثقافية، يدرك حجم مساحة التعميد الثقافي الذي كانت تحتله بيروت.
والأمر ذاته ينطبق بشكل نسبي على العاصمة العراقية بغداد، حين تحولت بغداد بمشروعاتها الثقافية وطباعتها المتتالية لترجمات مستمرة من عيون الأدب العالمي، سيدرك مدى الحجم العراقي الرافد للثقافة العربية آنذاك.
وقد كان المثقف المغاربي، في تلك السنوات المبكرّة من عمر الثقافة العربية، ينام ويقوم وهو يحلم بالإقامة في تلك الحواضر الثقافية الثلاث، وتبعه في هذه الرغبة الحميمة العديد من مثقفي حواضر الأطراف العربية، الذين كانوا ينتظرون تلك اللحظة التي يصطدمون فيها مع أنظمتهم السياسية، كي يمتلكوا حق النفي والمغادرة، وامتلاك صفة المعارضة التي كانت ترعاها هذه الحواضر العربية.
لكن ومع تفشي ظاهرة الحواضر الثقافية وهيمنتها على المشهد الثقافي العربي، كانت هناك ثقافة مهمشّة في الأطراف تنمو ببطء، وتؤكد وجودها عبر الصحافة العربية والمطبوعات العربية.
وكان تفكيك بيروت كحاضرة ثقافية قد بدأ مع خروج الثورة الفلسطينية من بيروت وتشتتها في المنافي العربية والغربية، وكان قد سبق ذلك تفكيك القاهرة كحاضرة ثقافية، بعد أن قام الرئيس المصري الراحل أنور السادات بزيارته إلى القدس، حيث حدثت أيامها قطيعة بين الأنظمة السياسية العربية، وبالتالي قطيعة مع المنتج الثقافي المصري، وتبع كل هذا قطيعة مع بغداد التي تعرضت للحصار والتجويع، والافتقار إلى الورق والحبر.
هذا المتن الثقافي في كل هذه الحواضر تزلزل تماماً، بسبب قوة النمو في الهامش، ونهضت كتابة جديدة في الأطراف العربية قدمت لنا العديد من الأسماء الإبداعية، فصار يمكن ان تسمع عن شعراء في الإمارات وكتاب قصة قصيرة في عُمان، وكتاب رواية مدهشة في السعودية، وكتاب قصيدة نثر في الأردن وفلسطين المحتلة.
ومع ثورة المعلوماتية وتسيد زمن الصورة، تحولت الحواضر الثقافية العربية الراسخة، إلى مادة للتندر والتذكر، وصار مكان الكتابة وتألقها هو جغرافيا الكوكب بالكامل.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .