إشكاليات الموسيقى والتشكيل
ظلت الموسيقى بجميع أنواعها باستثناء بعض الآلات الإيقاعية في التاريخ العربي الإسلامي تقع في منطقة المحرم، وانتقل هذا من منطقة التحريم التشريعي الديني إلى منطقة العرف الاجتماعي. وبالتالي تحول الفن الغنائي والموسيقي الى الإقامة في تلك المنطقة الاجتماعية البعيدة كل البعد عن فعل التخليق والتوليد الفنيين، وبقيت الموسيقى ضمن هذا الحال المخنوق والمحاصر تنمو وتتطور في منطقة اجتماعية هجينة، مرتبطة أساساً بالمعصية والفساد الأخلاقي. وصار الموسيقيون والفنانون يذهبون الى الشوارع الخلفية والفاسدة والى المقاهي والأماكن الرطبة والمعتمة كي ينتجوا موسيقاهم.
ضمن هذا الواقع «المحجب» للموسيقى كان من الصعب على الموسيقى العربية أن تأخذ مسارها التطوري، بحيث يمكن لهذه الموسيقى أن تتطور لتصبح محاكية للشجن الكوني، وبالتالي يتم إنتاج تلك الموسيقى التي لها علاقة بالغابة، أو بالانتصارات في المعارك الفاصلة، أو التعبير عن أمواج البحر وهدير المحيطات والضجة الكوكبية عموماً بكل أشكال أصواتها.
ولهذا ظلت الموسيقى العربية مرتهنة لما يمكن أن ينطق به المغني، فقد تم عقد قران صوت المغني على الموسيقى فصارت الموسيقى ذات علاقة تواشجية صميمة مع كل ما يُغنى.
ولهذا يصعب القول إن هناك موسيقى عربية تستطيع ان تقيم بشكل أحادي دون أن يرافقها الصوت الغنائي.
والحال أن الموسيقى العربية هاهنا تلقت ضربة قاصمة في أساس تكوينها، وفقدت ما يمكن تسميته «العلاقة السرية بين النغمة ونطق الشعر»، فالعلاقة المصمتة بين الموسيقى والشعر تتجلى في معظم الأحيان في تلك الملحمة الموسيقية التي تعبر عن المشاعر الإنسانية بالموسيقى. وفقدت الموسيقى العربية قدرتها على أن تكون موسيقى خالصة ليست بحاجة الى المغني.
إن هذا النأي المزمن بالموسيقى وإزاحتها نحو منطقة الإسفاف واللهو، جعل الموسيقى تفقد قواها التعبيرية، وتظل في منطقة الاستماع والطرب.
وهذا الحال يخالف تماماً المناخ الذي تولدت فيه الموسيقى الغربية، التي أدخلت في وقت مبكر جهاز البيانو الى مكان التدين الأساس في الكنيسة والأناشيد الدينية المسيحية، وعليه فقد كان نمو المناخ الموسيقي الغربي في منطقة «الحلال»، وهذا ما أدى لاحقاً الى تفجير عبقريات موسيقية قامت على تخليق السيمفونيات الخالدة، التي وضعت الموسيقى في مصاف الشعر المُنغم.
والحال ذاته ينطبق عربياً على فن الرسم والتشكيل الذي ارتبط شرعاً بتحريم التجسيد ومحاكاة مهارات الخالق، واستقر التعبير الإسلامي الفني في الحرف العربي وبقية المنمنمات والزخرفة الحجرية، بينما ذهب الغرب في وقت مبكر الى رسم الجداريات والتجسيد، الأمر الذي جعل الفن التشكيلي الذي يرتقي بالذائقة البصرية يتطور، ويدخل في مدارس فنية وتشكيلية متنوعة ومتطورة باستمرار وبإلحاحية تاريخية.
ولهذا تظل الموسيقى العربية في حالة تخلف، ويظل التشكيل العربي يلهث خلف مدارس فنية لم يكن شريكاً في إنتاجها في الأصل.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .