علم البصريات العربية
تبين الفصول العديدة لكتاب «العصر الذهبي للعلوم العربية»، الصادر عن الأمانة العامة لعاصمة الثقافة العربية دمشق عام ،2008 بالتعاون مع معهد العالم العربي في باريس، كيف أسهم العرب في نشر المعرفة قبل عصر الاستنساخ الآلي، وأسسوا لحضارة كونية قبل أن يدخل الغرب عصر النهضة بقرون. ويشكل الكتاب مرجعاً علمياً ممتعاً، ويرصد مساهمة العلماء العرب في علوم الفلك والطب والرياضيات والفيزياء والعلوم والفنون والموسيقى، وفي الميكانيكا، وفي مجال علم البصريات الذي يتعامل مع الضوء في كيفية تولده وانتشاره.
في النصف الثاني من القرن التاسع استلهم علم البصريات العربية بصورة جدية تراث الفكر اليوناني المهم من مصادر الكلاسيكية المترجمة إلى السريانية والعربية، مثل كتابي «المناظر» و«الانعكاس» لإقليدس وكتاب «المناظر» لبطليموس، إضافة إلى مؤلفات مختلفة أخرى حول البصر والإدراك. وكان حنين بن اسحق من أوائل العلماء العرب الذين قاموا بترجمة مؤلفات عديدة لجالينوس حول العين وارتباطها بالدماغ من خلال العصب البصري، كما وضع نموذجاً تشريحياً وفيزيائياً للجهاز البصري استند فيه إلى الكتب التي ترجمها. كذلك عالج الفيلسوف المعاصر لابن اسحق يعقوب الكندي (185 - 256 هـ / 805 - 873م) الظواهر الضوئية في كتابه الشهير «علم المناظر»، وهو أول كتاب عربي يُعنى بعلم البصريات، ويعرض فيه الكندي أساس تصوره الجديد، ليحل محل نظرية الانبعاث اليونانية، القائلة بحدوث «الإبصار» وقت اعتراض الأجسام المرئية لانبعاث أشعة تصدر من العينين!
ثم جاء الحسن بن الهيثم (354 - 430هـ) ليناقش، في «الإبصار بوساطة العينين» نظريات إقليدس وبطليموس، ويقدم وصفاً دقيقاً للعين، وللعدسات وللإبصار، واستطاع وضع نظرية كاملة ومترابطة حول الإدراك، تستند إلى المفاهيم التشريحية والفيزيائية وإلى هندسة الإشعاعات الضوئية، وبين فيها كيف أن البصر ينتج من إشعاعات الضوء والألوان المضاءة، التي تصدر عن أجسام خارجية، ترد إلى العين. ومع أن بحثه الشامل لم يجد تأثيره في تطور علم البصريات في الشرق الإسلامي، فإنه وجد تأثيره الكبير في تطور علم البصريات في الغرب اللاتيني. ويوضح كتاب «المناظر» الذي خلد اسمه عبر القرون، تصور البصريات كنظرية أولية في الإبصار، مختلفة جذرياً عن فرض الشعاع المرئي، الذي حافظ عليه التقليد الرياضي منذ إقليدس حتى الكندي. والهيثم هو أول من أجرى تجارب بوساطة ما يسمى عملياً «الغرفة المظلمة» أو الحجرة السوداء، أساس التصوير الفوتوغرافي، واكتشف منها أن صورة الشيء تظهر مقلوبة داخل هذه الخزانة، فمهد بذلك أول الطريق إلى ابتكار آلة التصوير ليصبح من أوائل من أسهموا تاريخياً في اختراع الكاميرات.
ونقرأ في فصل «علم البصريات العربية» لمارك سميث، كيف اعتبر ابن الهيثم، في المرحلة الكلاسيكية العربية وفي القرون الوسطى، أكبر اختصاصي في علم البصريات وكيف شكلت ترجمة كتابه إلى اللغة اللاتينية نقطة انطلاق لتقليد خلاق في الفيزياء، تابعه أشهر العلماء في بحوثهم الخاصة في علم بصريات المجهر، والتليسكوب، والعدسة المكبرة، وهو العلم الذي سيلعب دوره البارز في ولادة السينما، بعد ما تم اختراع التصوير الفوتوغرافي عام .1839
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .