أبواب

ساركوزي والغجر

يوسف ضمرة

هذا العالم محكوم بالعبث، وبالانحطاط الإنساني، وبانحلال القيم أو تزويرها. وهذا العالم الذي يتباهى بالحرية والهوية الشخصية والقوانين والشرائع التي تحفظ حق الإنسان في الحياة، لا يعترف إلا بالإنسان الذي يريده هو، وبهويته هو، وبقيمه المزيفة هو.

الفكرة هي هي. تتغير الأزمان والجغرافيا وتظل الفكرة. وعلى هذه الفكرة يبني الغرب مشروعه الراهن والمستقبلي. وهو مشروع عنصري لا يقيم وزناً للإنسان أو حقوقه كما يدعي ويزعم ويروج في وسائل إعلامه الملونة.

لا يتذكر هذا العقل الغربي من الحرب العالمية الثانية سوى ما سمي بالمحرقة. وينسى أن الغجر كانوا من الفئات أو الأجناس التي تعرضت للإبادة الجماعية في تلك الحرب. ولكن الغجر لا يشكلون بالنسبة للعقل الغربي العنصري، تلك الأهمية التي يشكلها اليهود. فالغجر لا ينتمون إلى قومية أو ديانة أو جغرافيا، ولا يقدسون في حياتهم كلها من القيم سوى الحرية. وهم مستعدون للسرقة والقتل وارتكاب الموبقات، ولكنهم غير مستعدين لمقايضة أي شكل آخر من أشكال الحياة بالحرية التي لا يوجد من يقدسها على هذه الأرض كما يفعلون.

هؤلاء هم الغجر.. أناس بسطاء في حياتهم، خفيفو الإطلالة والصراخ، قليلو التذمر والشكوى. صبروا ويصبرون على كل ما تعرضوا ويتعرضون له عبر التاريخ.

واليوم، يأتي الملياردير الإيطالي بيرلسكوني الذي تجاوز السبعين، ليشتم الغجر ويحقرهم. ولكن الطامة الكبرى هي أن يقوم ساركوزي بإبعاد الغجر عن فرنسا وترحيلهم.

لا ذرائع ولا حجج ولا منطق.

ظن ساركوزي من قبل أن سكان الضواحي هم مشكلة باريس والفرنسيين، وينتقل اليوم إلى الغجر، وهو يتكئ على الفكرة التي أشرنا إليها من قبل، وهي مركزية العقل الأوروبي. وفكرة الشيء أهم من الشيء نفسه. فالفكرة قادرة على البقاء، سواء بالتكيف أو بالتحول، ولكن الشيء/الفعل، من دون فكرة يصبح أمراً عابراً قد يذكره التاريخ وقد لا يلتفت إليه.

والسؤال هو: إلى أين تذهب بالغجر يا ساركوزي؟ أليسوا بشراً؟ أليست لهم حقوق إنسانية أهمها الحق في الحياة؟ أليسوا جماعة إنسانية موجودة على هامش الإنسانية؟ فهل ضاق حتى هذا الهامش بالغجر؟ وتريدنا أن نصدق أن ما يسمى بالعالم الحر هو حر حقاً؟ وأن ما نسمعه من حرص على حقوق الإنسان هو حرص جدي؟

لن يصعد الغجر إلى السماء هذه المرة، وسيظلون على هذه الأرض، في فرنسا أو في سواها. فالمهم هو أن قيمة الحرية ستظل مشتعلة ومرفوعة في شوارع عاصمة ما، أو مدينة ما، أو قرية ما، أو شارع ما، أو سهل ما، أو جبل ما، لأن الغجر سيعاودون صعود الجبل حفاظاً على قيمتهم العظيمة، وإكراماً لشاعرهم العظيم لوركا، بعد أن وصلتهم رسالته واحتفظوا بها طوال عقود من وهم الاستقرار، في هامش قابل للاقتطاع كل يوم!

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

تويتر