باب الشتاء
اشتقنا إلى الشتاء، إلى غيمة تلوح في الزرقة وتمطر فوق وجوهنا المتعبة، وتبلل أرواحنا التي تعبت من كثرة الصيف، اشتقنا إلى نسمة باردة تأتي من جهة الماء، واشتقنا إلى كستناء تطقطق، كما لو أنها تتحدث عن مطر يمسح التعب كما يمسح نوافذ البيوت.
اشتقنا إلى غيمة تعبر الأفق، وتدخل الروح والبيت وتغسل الأشجار الواقفة في أطراف الشوارع، اشتقنا إلى غيمة تبلل التراب، وتثير الذكريات، وتفتح المخيلة على وسعها.
اشتقنا إليك أيها الشتاء الغائب، اشتقنا إليك، تجيء إلينا غائما بالماء والحب والأغنيات. اشتقنا إليك أيها الفصل الذي لا يشبه سوى نفسه، أنت أيها الشتاء الذي يبهج الكائنات، ويسقي الإنسان والشجر والحيوان والحجر، اشتقنا إلى كلامك المبلل بالتأمل، اشتقنا إليك لتأتي إلينا ملثماً بالغيوم، تطرق أبواب البيوت، وتفتح شهية الشاعر ليكتب ويقرأ ويتأمل ويرتعش، كما لو أنه في حضرة المعشوقة.
أيها الشتاء، أيها الفصل الاستثنائي، اشتقنا إلى هوائك الذي «يتمرجح» فوق رؤوس الأشجار، واشتقنا إلى كتاب أو جريدة مبللة بمطر مفاجئ، اشتقنا إلى غمامك الذي يتجول في الأعالي في صور نتخيلها، إذ ترسم في السماء لوحات في كل لحظة، هناك خيول تصهل في الزرقة الصافية، ويد تمتد لتقطف عنقود ضوء يتدلى من الشمس بين ثنايا الغيوم، هناك في الأعالي برق يتشجر في السماء، وطقوس تبدأ في الأرض.
أيها الشتاء يا غيمة الفصول، اشتقنا إليك، تأتي لتغسل أرواحنا، وتمسح الغبار الصيفي الذي علق في مرايانا، اشتقنا إلى ملابس ثقيلة قليلاً، واشتقنا إلى قطرات الماء وهي تبلل وجوهنا، واشتقنا إلى المطر وهو ينسكب فوق مشهد البحر، اشتقنا إلى قصيدة شتوية تحرك أرواحنا من شدة جمالها.
اشتقنا إليك أيها الفصل الحميم، يا مخزن الغيم والذكريات، ويا سيرة الاخضرار في كتاب الأرض، اشتقنا إليك أيها العالي، يا سرة الماء، ويا رفيف الحقول.
اشتقنا إليك، أيها الشتاء، بعد صيف ثقيل مثل حافة، بعد صيف حارق وخارق.
اشتقنا إليك يا يد الخضرة، وأنت تجوب الأرض، وتتفقد الأشجار البرية لتطفئ عطشها، كما أنك تتفقد الأرواح لتروي عطشها، وتتفقد المرايا لتجلو فضتها، وتتفقد المعدن لتعيد إليه لمعانه، وتتفقد الحقول لتقول قصيدتها، وتتفقد الماعز لتبلل سوادها، وتتفقد الأبجدية لتسقي حروفها.
أيها الشتاء، تعال، إننا نقف الآن في انتظار أول غيماتك.
اشتقنا إليك، حيث تصبح للقهوة الصباحية موسيقى تنساب من معطفك.
اشتقنا إليك.
أيها الغائم، نحن في انتظارك.
أيها الغائب، إننا نطرق بابك.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .