عمليات التجميل
لم تعد عمليات التجميل مقصورة على ذوي العاهات، أو من حلت بهم حوادث غيرت أصل وضعهم السليم، بل لقد أصبحت موضة العصر، يقصدها كل من أراد أن يعبث بنفسه ليتزيا بغير طبعه، وينتحل شخصية غيره لظنه أنه يملك نفسه فيتصرف بجسده كما يشاء، وهو ظن خاطئ، فالجسد ملك مَن خلقه فسواه فعدله، وفي أي صوره شاء ركبه، الذي قدر له أن يكون على شِية معينة؛ ليمايز بين خلقه، وهي إحدى دلائل قدرته الدالة على وحدانيته، كما قال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السمَاوَاتِ والأًرض وَاختلاف أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِن فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ}، فلذلك خلق الناس متفاوتين في الخلق لوناً وقدراً وصحة وعجزاً، ولو شاء الله أن يسوي بُنيانهم وبَنانهم لفعل، فما بال البشر يريدون أن يخرجوا عن هذا السنَن الإلهي إلى تغيير خلق الله، تلبية لرغبات شيطانية وانفصاماً عن الخِلقة الإنسانية؟ ألم ير المرء أن الله ميزه عن غيره من سائر الخليقة، فخلقه في أحسن تقويم، وصوره بأحسن تصوير، فما بعد الحق إلا الضلال، وفوق البياض بهق، وله أن يتجمل بما شاء من الزينة والريْش، كما قال الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ}، وهذا امتنان منه سبحانه على عباده بما خلق لهم من اللباس الذي يواري العورات، والريش وهو ما يتجمل به ظاهرًا، فالأول من الضروريات، والريش من التكملات والزيادات، فله أن يتجمل من ذلك بما شاء ما لم يكن سَرَفٌ ولا مخيلة. أما التعدي على الجوهر الإنساني بتغيير شكله من غير ما بأس فهو من العدوان على الذات، وعلى البِنية الإنسانية التي هي ملك الله تعالى، وهي أمانة عند المرء، يتعين عليه أن يراعيها حتى تعود لمالكها، فإنه سبحانه لا يحب المعتدين. نعم إن كان هناك بأس خِلقي خارج عن سنن البشر و أصل بِنيتهم، أو حادث ألم بهَ؛ فإن الشرع يندب له أن يصلح ما وهَى من جسده، ويرقع ما تمزق من بدنه، فذلك من التداوي الذي ندب إليه، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق الداء والدواء فتداووا، ولا تتداووا بحرام». والتداوي كما يكون بالعلاج المشروب ونحوه كذلك يكون بالجراحة التجميلية التي تصلح العيب الخِلقي، أو تعيد الجسد إلى أصل وضعه الطبعي؛ لأن الضرر يزال، والأصل عود الإنسان إلى ما عليه كان، فقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم لعرفجة الصحابي أن يتخذ أنفاً من ذهب لما قطع أنفه في حرب من حروب الجاهلية، وأعاد عين قتادة بن النعمان إلى موضعها بعد أن سقطت يوم أُحد وأتى بها يحملها بيده، وذلك من معجزاته صلى الله وسلم عليه، وهو تشريع لأمته أن يصلحوا ما أصابهم من جراح ونحوه؛ لأن الحفاظ على الجسد من مقاصد الشارع، فلذلك حرم كل أذى يصل إليه بطريق العدوان. وهذه العمليات التجميلية التي يقصد بها تغيير الشكل أو اللون ليست مما أباحه الله بل مما حرمه عليهم، وهي استجابة للدعوة الإبليسية في تغيير خلق الله كما تعهد بذلك بقوله: {ولآمُرَنهُمْ فَلَيُغَيرُن خَلْقَ اللهِ}، وقد كتب الله أنه {مَنْ يَتخِذِ الشيْطَانَ وَلِيا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا}، فعلى عقلاء البشر أن يستفيقوا من هذه الانهزامية بالعبث بالبنية الإنسانية، فإن وبال عبثهم بأنفسهم كبير في الدنيا والآخرة.
كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .