رؤية
«مُتْ قاعد»!
إن أصل كلمة «متقاعد» كلمتان «مت ـ قاعد» أي الموت جلوساً.. هكذا فجأة يصدر حكم ظالم من مسؤول في وزارة أو هيئة أو دائرة حكومية على موظف مواطن بالموت جالساً، بإحالته إلى التقاعد وهو في قمة عطائه، وكامل استعداده، ونبوغ فكره ونضوج علمه، وفي الأغلب يصدر هذا القرار، لأن هذا المسؤول يخشى النابغين ويخاف المبدعين، يتوجس من المنتجين، ربما لأنه جاء بمقصد وأهداف ذاتية، أو ربما لأنه لا يملك الكفاءة والقدرة وفن الإدارة واستثمار المنتج والنابغ من الموظفين، فيصدر حكمه الظالم بإحالة هذا الموظف المواطن إلى التقاعد القسري، ومن دون سابق إنذار، وإذا لم يتمكن من إبعاده عن العمل أو الوظيفة، فإنه يدفعه إلى التقاعد من خلال تهميشه أو إبعاده عن مصدر القرار، أو يجرده من مسؤولياته، أو يعيده إلى وظيفة لا تناسب مؤهلاته وخبراته، وعليه أن يقبل التهميش القسري أو أن يختار الرحيل المبكر عن الوظيفة طواعيةً.
في كلتا الحالتين المشار إليهما النتيجة واحدة، التقاعد، وموت بطيء على كرسي «المتقاعدين أو المهمشين»، نعم «متقاعد» مع سبق الإصرار والترصد، متقاعد على كرسي الوظيفة أو الموت البطيء مع القهر والظلم، أو كرسي المنزل أو المقهى أو حتى على قارعة الطريق، حيث السأم والملل.
وأمام هذه الظروف، فإن البعض يسعى إلى التغلب على وضعه بالهروب بعيداً عن هذه الحالة، من خلال فتح مكتب صغير له يمارس من خلاله عملاً بسيطاً بعد خروجه من العمل، ربما ليموت وهو «واقف»! أو أن يقبل بالتهميش على كرسي وظيفة أخرى لا تلبي طموحاته ومكانته وخبراته، ليموت جالساً على ذلك الكرسي، بعد أن تنهشه الأمراض النفسية ثم العضوية، إن لم تكن العقلية!، خصوصاً حينما يشاهد نظرات الازدراء من زملائه الذين ربما كان رئيساً لهم أو مسؤولاً عنهم في يوم ما، أو نظرات الرأفة والعطف من زملاء يدركون حقيقة الأمور، لكنهم عاجزون عن مد يد العون والمساعدة إليه أو حتى الاقتراب منه، خوفاً من مسؤول لن يتردد في إصدار حكم «المتقاعد» عليهم، ليصبحوا على ما فعلوا نادمين!
هكذا هي حال أوضاعنا الإدارية في العديد من مؤسساتنا ووزاراتنا ودوائرنا الحكومية، حيث بعض المسؤولين ينظرون إلى كرسي المسؤولية باعتباره إرثاً توارثوه عن أجدادهم، وحقاً ممنوحاً لهم حتى مماتهم، أو منصباً مستحقاً لهم لأنهم يملكون الكفاءة والقدرة الاستثنائية، أو شركة خاصة يديرونها وفقاً لأمزجتهم وأهوائهم، يبطشون، يظلمون، ينهبون، لا لشيء إلا لأنهم يملكون سلطة القرار الذي يظنون أنه سلاح يستخدمونه وقتما شاءوا وكيفما أرادوا، غير مقتنعين بأن الإدارة فن، والمسؤولية أخلاق، واحترام الموظفين للمسؤول شيء، والخوف من بطشه شيء آخر، والمسؤول لا يعلم أن الكرسي دوار، وقد ينقلب عليه في أي وقت، وحينها سيدرك جيداً أن مصيره إلى «مزبلة» التاريخ مهما اعتلى منصبه أو اغتنم من وظيفته.. وهنا نقول رحم الله مسؤولي أيام زمان، أحياءهم وأمواتهم، حيث الفهم والإدراك للمسؤولية والوظيفة، واحترام الموظفين والحرص عليهم!
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .