الحلم والكتابة
لم يثبت العلم قطعياً، حتى اليوم، أن الأحلام البشرية رموز وعلامات ومؤشرات إلى ما سيحدث في المستقبل. ولكن المؤمنين بالخرافة الشعبية هم الأكثر تعلقاً بهذه الأحلام وتفسير تلك العلامات الوهمية. ذلك أن الإنسان ـ كما يشير فرويد ـ كان منذ طفولة البشرية متلهفاً على قراءة المستقبل، وقد وجد في الأحلام شيئاً من ضالته.
على أن «فرويد» نفسه، لم يتعامل مع الحلم كمجرد آلية فيزيائية للشخص النائم، بل ذهب إلى أبعد من ذلك بكثير، وهو يتحدث عن تحقيق الرغبات في الحلم.
ولا يعنينا كثيراً الخوض في تفاصيل آلية الحلم، لأنها معقدة وملتبسة في الأصل، ولأنها ليست نمطية لكي نقيس عليها. ولكن ما يعنينا هنا، هو دور الأحلام في الكتابة.
فإذا كان الحلم متفلتاً وطليقاً ولديه القدرة على اختراق حواجز الزمان والمكان، فإن استخدام الكتاب والأدباء للحلم وتوظيفه، ظل حتى اليوم عاجزاً عن مجاراة مقدرة الحلم نفسه. وهي مفارقة غريبة، ذلك لأن الكاتب يمتلك المقدرة على التحكم في الحلم، وفي الرموز التي يود طرحها لتقود إلى توكيد ما يطرحه من أفكار ومفاهيم.
هذه المفارقة تجعلنا نعيد التفكير في الحلم مرة أخرى، ولكن بعيداً عن هرطقات بعض المفسرين والدجالين ومدّعي قراءة الغيب.
فآلية الحلم تتسم بالعفوية والانفلات من أي قيد قانوني أو أخلاقي. وكثيراً ما يستغرب المرء ذهاب حلمه إلى حدود لم يكن فكر في الوصول إليها من قبل.
وإذا كان الحلم إفرازاً للاوعي، فإن هذا اللاوعي في هذه الحال، يقوم بدور عجز الوعي عن القيام به، بسبب القيم والمنظومات الأخلاقية والمجتمعية والقانونية السائدة. وهذا يعني أن الإنسان ليس في أعماقه مقتنعاً تماماً بكل هذه الضوابط التي تقع عليه من خارجه، بوصف هذه الضوابط في شكل أو في آخر، وفي حد أعلى أو أدنى، تشكل تهميشا لحرية الإنسان، التي على ما يبدو هي القيمة الإنسانية الأقرب إلى الجوهر البشري.
هذا لا يعني الدعوة إلى إلغاء القوانين والمنظومات القيمية والأخلاقية، ولكنه يدعو إلى إعادة النظر فيها، لأن كثيراً منها ربما كان ينطوي على تعسف كبير في حق الإنسان.
ومن هنا يأتي دور الكاتب، ونعني به الاقتداء بآلية الحلم، طالما كانت الكتابة في المحصلة تلعب دوراً في تصويب مسيرة المجتمعات نحو الآفاق الأنقى والأرقى والأجمل. على أن آلية الحلم وتقنيته في الكتابة، ينبغي لها أن تتحرر من الضغط الذي تمارسه القوانين والمنظومات الأخلاقية على وعيه. أي إن على الكاتب الاهتداء بوعيه الحقيقي لا الوعي المزيف، لأن كل وعي يقع تحت سلطة بشرية هو وعي مزيف، حتى لو كان صحيحاً. وما تمكن الإنسان من صياغته وقوننته، يمكن تطويره وتجديده، بل يمكن هدمه وإعادة بنائه مرة أخرى، لأن الحياة متجددة دائماً، ولا تتوقف عند حد معين.
الكاتب مطالب باختراق حواجز الصوت التي تبدو مقدسة، وهي ليست كذلك. وهذه القداسة التي نسبغها على كثير من القوانين والمنظومات الاجتماعية، هي التي تقف عائقاً أمام استشراف نافذ لمستقبل أفضل، وأكثر حرية وعدلاً وجمالاً. ويمكن أن نتصور الخروج الأول على وحدة البيت في الشعر العربي، وكيف شكّل صدمة هائلة بسبب الإرث الثقافي الذي كان مشمولاً بقداسة ما. ونقارن محمود درويش بسلة كبيرة من الشعراء العرب منذ المتنبي، لنكتشف كم هو ضروري أن تكون الكتابة شبيهة بالحلم.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .