أبواب
طملية.. عامان من الموت
عامان من الموت القبري يا صديقي محمد طملية، أما كانتا تكفيان لتعلمانك دربة الموت، وذاك الاستقرار العظمي النحيل في استطالتك القبرية في مقبرة «سحاب» العمانيّة؟
عامان من الموت يا صديقي الذي ولد نزقاً، كيف احتملت كل هذا الصمت تحت التراب؟ وكيف اعتذرت عن كتابة زاويتك اليومية؟ تلك الزاوية التي كانت تجلسك في كل صباح، أمام ورقك الأنيق، وحبرك السائل، بذاك الخط الأنثوي المنمنم والمائل. تلك الزاوية التي توجتك كاتباً ساخراً، لا بل معلماً للكتابة الساخرة في الأردن، وربما في الوطن العربي عموماً.
عامان من موتك و لم يظهر اسمك على جهازي الجوال طابعاً اسمك كي تناكفني، وأنت تداعبني قائلاً «اسمع هذا الدرس في كتابة الزاوية وتعلم يا خليل»، وكنت بعد ذلك تقرأ زاويتك التي انتهيت منها للتو تاركاً قهقهتي تُجمّل الصباحات، بتلك القفشات اللغوية الساخرة التي لن يستطيع أحد أن ينفرد بها، كما تنفرد بها أنت وحدك يا صديقي.
عامان من الموت يا محمد، وزاويتك، التي كانت تحمل عنوناً فكاهياً «تداعيات رجل يجلس على جاعد»، غائبة عن الطواقم الوزارية الأردنية، وعن المسؤولين، وعن العمال والموظفين والمزارعين وطلبة الجامعات والمدارس. وكل هؤلاء الذين كنت تقتادهم مخفورين بقوة حبرك اللادغ، تلك اللدغة الذكية التي تقرص الروح.
عامان من الموت يا صديقي وصعاليك عمان ابناء السبيل الخمري، وتلك القارورة التي كانت تتوسط منضدتك، وتلك الشقق التي كنت تصطادها فارساً نبيلاً في الأحياء الراقية من عمان، كي تقيم فيها احتفالاتك الساخرة، لتطعم الجميع، من ذاك الوعاء الذي كان يتناوب عليه كل عابر طريق أعمته جبال عمان وحواريها.
عامان من الموت يا صديقي كان عليك أن تنهض قليلاً، كي تهبط من قبرك نحو «وادي الحدادة» وتطرق باب العائلة، التي قدت من حجر الكدح، الذي بذلته امك حليمة التي قلت عنها عند وفاتها «إنها ماتت وهي على رأس عملها». كان عليك أن تمر على غرفة حليمة تتنشق رائحتها قليلاً وتتذوق رائحة الأرملة، التي ظلت تكد حتى الموت، وتعبر غرف الأشقاء والشقيقات تطمئن عليهم كعادتك في حنوك النادر.
عامان من الموت يا محمد، كان عليك ان تلتفت من قبرك قليلاً لترى بغداد التي سقط فيها والدك ميتاً، وترى كل هذا الخلاف على الحكومة وتأليفها، ومقارعتك اللذيذة لجند «المارينز». أو أن تنهض قليلاً كي تكتب لنا عن هذا الورع الذي أخذ يجتاح الوطن العربي، وفرخ «القاعدة» والارهاب والفتنة الطائفية التي تهددنا كل صباح بالنهوض.
عامان من الموت يا صديقي.
ما كنّا نحن الأصدقاء لنصدق انه من الممكن ان تموت الى هذا الحد، وما كنّا لنصدق أن اللسان حينما يتسرطن يحيل الروح التي ظلت مرحة حتى الموت، الى كل هذا الغياب.
محمد طملية عليك السلام.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .