وليالٍ عشر

كل مسلم يعيش هذه الأيام، يعلم أنه في زمن فاضل، له في الإسلام مزية عظيمة، لكونه في الأيام المعلومات التي خصها الله تعالى بالذكر، وجعل وظيفتها ذكر الله كثيراً، كما قال سبحانه: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ}، وهذه الأيام المعلومات هي التي أقسم الله تعالى بها بقوله: {وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ}.

ويقسم ربنا سبحانه بما شاء من مخلوقاته ليدل عباده على شرف المقسَم به أو خصائصه، وأقسم بالليالي العشر هنا؛ ليستحث همم عباده في اغتنام فرصتها بالإكثار من ذكر الله تعالى وشكره، ومن الأعمال الصالحة، وهو ما بيّنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام، عشر ذي الحجة، فأكثروا فيهن من التسبيح والتهليل والتكبير والتحميد»، فجعل وظيفتها كثرة ذكر الله، وهو ما يسميه الفقهاء بالتكبير المطلق، فيكبرون في بيوتهم وطرقهم وأسواقهم، من غير قيد ولا حصر، وهو ما كان يفعله الصحابة رضي الله تعالى عنهم، كما روى البخاري عن ابن عباس في قوله تعالى: «واذكروا الله في أيام معلومات» أيام العشر، و«الأيام المعدودات»: أيام التشريق، قال: وكان ابن عمر، وأبوهريرة: «يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران، ويكبر الناس بتكبيرهما»، وما ذلك إلا لبيان فضيلة الذكر وعظيم منزلته عند الله تعالى، حتى إن الجهاد لم يعدله إلا أن يصحبه الشهادة في سبيله، فناسب أن يكون الذكر الذي هو أكبر من كل شيء سواه، وظيفة هذه الأيام.

وهذا من عظيم فضل الله تعالى على عباده الذين تتقطع أفئدتهم أسى أن لم يكونوا مع حجاج بيته وزوّار حرمه، وقبر نبيه، ليكون لهم من الأجر مثل ما لإخوانهم، إن هم نافسوهم في الطاعات، لاسيما تقديم القرابين المقربات من الأضاحي الطيبات التي تنسك لله رب العالمين، وترمز إلى التضحية بهوى النفس، اتباعاً لوحي السماء، وتجدّد ذكرى إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن، الذي ضحّى بفلذة كبده إسماعيل عليه السلام، مع أنه كان قد أعانه على بناء بيت الله العتيق، وجاءه على كبر، وكان صديقاً نبياً، فلما علم الله منه انشغال قلبه به، وهو خليله، كان لابد من تفريغ قلبه لربه، كي لا يشركه في الخُلة أحد؛ لأنه سبحانه أغنى الشركاء عن الشرك، فامتحنه بأمره بذبحه قرباناً، فلما علم منه الصدق فداه بذبح عظيم، فكانت هذه الأضحية عند المسلمين إحياء لسنته؛ لأنهم أولى الناس به، فهو الذي سماهم المسلمين من قبل، ليكون الرسول عليهم شهيداً، ويكونوا شهداء على الناس، وهم الذين اتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً، ولهم مع ذلك الفضل العظيم، إذ يغفر للمضحي عند أول قطرة من دمها، كما ورد أنه «ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم...»، ولذلك سُن - ولا يجب عند الجمهور- للمضحي أن لا يقص شعراً ولا ظفراً حتى يضحي؛ لتكون الأضحية مغفرة لكل الجسد كما قال العلماء.

كل ذلك يكون في هذه الأيام المقدسة التي نتفيّأ ظلالها، فهل من منافس لخيرها وبرها؟ اللهم وفق وأنعم.

كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

الأكثر مشاركة