المأزق النضالي الموجع

مازلت أذكر أنا وجيلي من كتّاب سبعينات القرن الفائت، كيف كنّا نرتعش خوفاً من الوقوع في الكتابة الإغوائية، التي لا تتوخى النهج الملتزم بقضايا الأمة المصيرية، وقد كان هذا الالتزام يثقل كاهلنا بكتابة ذات سمنة لغوية خاصة، لغة تتوخى الإنشاء القادر على انهاض القارئ من مقعده. وهي ان شئت لغة تستمد قواها من الصوت الهادر للبيانات التي كنا نسمعها من المذياع، وهي ايضاً لغة كانت تستمد قواها من البيانات التي كانت تطلقها التنظيمات السياسية التي كانت على الأغلب سرية.

وبالنسبة لي فقد كنت أعاني هذه المسألة كثيراً وأنا أرى أصدقائي وهم يتشاغبون في الحوارات السياسية والفكرية، في جلساتنا الليلية، حول مفهوم الأدب الملتزم، وقضية الفن للفن. وكان إيقاع مصطلح الفن للفن يأخذ في أذني إيقاع الخيانة العظمى.

ومازلت أذكر كيف كنت أهرب قصصي القصيرة الأولى الخاصة بالوجع الإنساني العميق، بحيث انني كلما كتبت قصة ملتزمة بالهم القومي والهم الفلسطيني تحديدًا، احاول ان أزج بقصة ذات ألق انساني خاص.

إنّ مثل هذه الهمّة النضالية المقترحة في الكتابة، كانت تجعلنا نقبل على الكتابات النضالية، ونتجنب بالمقابل كل الكتابات ذات المنحى البرجوازي. وبناء عليه فقد هيمنت آنذاك كل الكتابات التي فرخها الاتحاد السوفييتي، وثورته البلشفية. هذا إضافة الى قراءات عن الثورات الماركسية الناهضة في دول اميركا اللاتينية.

إن مثل هذا الإكراه النضالي الذي هيمن على جيل كامل، جعلنا نفقد تدفقنا العفوي في الكتابة، مثلما جعلنا ايضاً نهمل تدفقنا العفوي في القراءة، الى درجة ان المكتبة التي كانت تتبع لأي فرد منّا كانت تتشابه بالضرورة مع مكتبة الصديق الكاتب الآخر، وإلى الدرجة التي يمكن ان نقول فيها إن جيلنا كان يمتلك مكتبة واحدة.

أقف الآن على هضبة عمري الكتابي، وأتطلع الى تلك المرحلة وأقارنها بالحرية الكتابية المتاحة للأجيال اللاحقة وأشعر بالتحسر، لاسيما أن الخسارات الفكرية والنضالية العربية بدأت بالتورم الى درجة اننا أخذنا نندم على انخراطنا المتهور والمبكر بالكتابة الملتزمة.

والأغرب من هذا كله أن الحرية المتاحة للجيل الكتابي العربي الحالي، اضافة الى كل الإمكانات التي تحملها ثقافة المواقع والإنترنت، لم تجعل الكاتب العربي ينتج ذاك النص الإبداعي العالمي اللافت.

إن الجيل الحالي يبدو كأنه معفى من جمرك النضال والالتزام الذي أكل رؤوسنا، ومع ذلك يبدو أن هذا الجيل ينتقم من الإرهاصات التي تعرضنا لها، فاختار الفوضى والتجريب الأخرق، ربما كردة فعل على جيل ابداعي دفع من رأسه الكثير بقضايا كثيرة كانت ومازالت خاسرة بامتياز.

khaleilq@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

الأكثر مشاركة