كتّاب لم يعمروا طويلاً
تبدو الكتابة بجمرتها اللاذعة أحياناً، كأنها أحد الأفخاخ القاصمة للعمر، ويبدو الكاتب والمبدع الحقيقي أحياناً كأنه القربان الحقيقي لحياة خصبة، يعز عليها من كثرة الإغداق في المشهد أن تمنح صاحبها المبدع العمر الطويل.
فالعين المخلبية التي يمتلكها المبدع وهو يُحدّق في الحياة وفي مكنوناتها المتوارية، والمتخفية وتسمياتها الجديدة بلغة مكتظة بالجدة وحداثة النطق المحبر، تجعله في حل من تلك العين البقرية التي يمتلكها الجميع حوله. تلك العين المهادنة والمواظبة على علك المشاهد الحياتية دونما أي ارتجاف، ودونما أي انفعال.
إنّ الحمولة الروحية الثقيلة التي يحملها المبدع الحق تجعله، وهو يعيش حياته المكثفة بلذة المشاهدة ووجعها، يستعجل الاقتراب من حالة موته، ذاك أن الحياة التي عاشها تتميز بكثافة العيش، التي تتحول إلى عبء قد يقود صاحبه أحياناً الى الانتحار والموت القصدي.
إنّ شاعراً مثل بوشكين الروسي كان يعي تماماً انه ليس بحجم المبارزة مع بعض انداده، ولهذا فقد ذهب بوشكين وقبيل حادثة المبارزة هذه، إلى كتابة قصيدة يوصّف بالتفصيل الشعري العميق هذه المبارزة، وكيف سيقضي نحبه فيها.
وإذا عدنا إلى حياة الشاعر الروسي يسنن، ونراقب حياته الطافحة بالمشهدية والرؤى الأخاذة، وهو يتعلق بقريته وبساطة العيش فيها الى الدرجة التي قال فيها ذات مرة «أنا آخر الشعراء القرويين»، نلحظ انه حينما اكتظت روحه بهذه الرؤى، يُقدم على كتابة قصيدة وداعيّة، ومن ثم يشنق نفسه بربطة عنقه.
والأمر ذاته ينطبق على رائد القصة القصيرة في العالم انطوان تشيخوف الذي قدم أجمل المسرحيات والقصص القصيرة، وهو يعاني اعتلالاً مزمناً في الرئة، الى أن توفي قبل أن يصل الى سن الـ.40 ففي الوقت الذي كان فيه تشيخوف يقد مشهده القصصي المبهر، كان يقد من روحه تلك الحالة الاعتلالية التي قدمته في النهاية قرباناً!
وفي الوقت الذي هز الشاعر الفرنسي آرثر رامبو العالم بحداثته الشعرية ورؤاه الفاتنة، وهو لم يصل إلى سن الـ20 بعد، قرر أن يقدم استقالته من الشعر والكتابة معاً، ويغادر باريس الى اليمن والحبشة كي يصبح من تجار القوافل، لكن روحه المثقلة برؤى «المركب النشوان»، أعادته الى بيت أمه، كي يموت مبكراً وهو يحدق بساقه التي قضمها السرطان.
وعربياً يمكن اعتبار الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان من هؤلاء الكتّاب الذين تكثفت حياتهم بالرؤى حتى الموت. وليس من باب المصادفة أن النساء يقلن عنه وهو في مرحلة الطفولة «هذا الولد مش ابن عيشة».
ومن يلاحظ الكثافة الحياتية التي عاشها المبدع الفلسطيني غسان كنفاني، لابد أن يلحظ أن الكاتب الشهيد كان يبدع ليل نهار، كأنه يعي أن الموت مقبل عليه لا محالة، والأمر ذاته ينطبق على الفنان ناجي العلي، الذي كانت رسوماته تتحرش بقاتليه كل صباح.
إنه الابداع إذن الذي يتكثف في روح داعياً اياها إلى الموت المبكر، والراحة الأبدية التي تعفيه من ثقل المشهد.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .