سلطويون في زيّ ثقافي

كفت المؤسسة العربية الرسمية اعتمادها أساليب الصدام والمواجهة المباشرة مع المثقفين العرب الديمقراطيين، واستعاضت عن ذلك بأساليب جديدة أصبحت معتمدة في الوطن العربي كله على وجه التقريب، إذ قل نزلاء السجون من المثقفين، واختفى التعذيب الذي مورس عليهم طوال عقود.

يطيب للمؤسسة الرسمية العربية الآن اعتماد نهج العصا والجزرة، الذي يتمثل في تضييق الخناق على الكاتب والمثقف العربي، ومحاصرته، وتهميشه، ومحاربته في قوت يومه، من خلال إغلاق المنابر الإعلامية المقروءة والمرئية والمسموعة، وكأنها بذلك تعطل مكبرات الصوت التي يحتاج إليها الكاتب والمثقف لإيصال صوته إلى الآخرين من جهة، وتشعره بلا جدواه من جهة أخرى، ما يؤدي إلى إحباطه وتعميق شعوره باليأس. وقد أدرك عدد غير قليل من المثقفين العرب هذه المعادلة الجديدة، فتلقفوها، وأصبحوا يلعبون اللعبة ذاتها مع المؤسسة الرسمية، طمعاً في جزرة أكبر، تتمثل في ما تلوّح به هذه المؤسسة من مكتسبات شخصية صغيرة، لكنها تبدو كبيرة جداً في عيون بعض الصغار. فكثيراً ما كنا نسمع أن الكاتب الفلاني معارض شرس، وداعٍ إلى التغيير وخلخلة البنية الثقافية والاجتماعية والسياسية السائدة، ثم نفاجأ به وزيراً أو أميناً عاماً لوزارة ما، أو مستشاراً ثقافياً، أو مدير دائرة ثقافية كبيرة، وما شابه ذلك. ولأن الأحزاب السياسية العربية لم تعد مرئية ومسموعة في المشهد العربي بعامة، فقد انفض الكثير من المثقفين والكتاب عنها، ورأوا مكانهم في اتحادات الكتاب والأدباء والروابط الثقافية والمنتديات الأدبية. وهي المؤسسات التي أصبحت تلعب دوراً بارزاً في تظهير صورة المشهد الثقافي في بلدان الوطن العربي، وبخاصة أمام المؤسسة الرسمية، التي بدورها أخذت تتفهم هذه المعادلة الجديدة، وتعمل على استيعابها واحتوائها.

ولأني واحد من قدامى المنخرطين في ما يسمى بالعمل النقابي، ومن موقع المجرب والمطلع منذ 30 عاماً عبر اللعبة النقابية، فقد تبين لي بعد معاناة طويلة، أن البرامج الثقافية والنقابية والسياسية التي تتبناها الأطراف المتورطة، ليست في معظمها سوى دعوات للمؤسسة الرسمية كي تقوم بتقريب بعض الكتاب والمثقفين، وتمنحهم بعض الامتيازات، من دون انعدام الطموح عند الكثيرين للوصول بالطرق النقابية إلى مواقع المسؤولية في المؤسسة الرسمية.

لقد تبين لنا أن المثقف السلطوي المعلن والصريح، أفضل من المثقف السلطوي المتلفع بعباءة المعارضة والتغيير، ذلك أن الأول لا يدّعي امتلاكه رؤية مغايرة، ومشروعاً مختلفاً عن مشروع المؤسسة الرسمية، بينما الثاني يشكّل بؤرة استقطاب للعديد من الكتاب والمثقفين الحالمين والراغبين حقاً في التغيير، ليكتشفوا في نهاية المطاف أنهم كانوا مجرد وقود في محرقة المؤسستين، الرسمية والشعبية!

فلماذا يحدث هذا كله؟

مؤسف؟ نعم، ولكنه وضع قائم لابد من تشخيصه أولاً، ثم هدمه وتحطيمه، لأنه ـ وهذا أخطر ما فيه ـ يقدم صورة مغايرة للمشهد الثقافي العام، فيغيب كثير من المبدعين الحقيقيين، ويجري تظهير صورة مزورة، يبرز فيها كتاب من الدرجة العاشرة، لا يستحقون لقب الكاتب إلا ببطاقة المؤسسة النقابية التي ينتمون إليها، كاتحادات الكتاب والروابط والجمعيات الأدبية!

وفي المحصلة النهائية، يقدم هؤلاء المثقفون صك براءة للمؤسسة الرسمية العربية. ولكن هذا كله لن يكون أبدي المفعول، لأن التغيير هو جوهر الحياة البشرية التي لا تتوقف عند بنية واحدة، وتعتمدها إلى ما لا نهاية.

damra1953@yahoo.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

الأكثر مشاركة