من وحي الهجرة
تتجدد ذكريات الهجرة النبوية، وتحمل في طياتها إيحاءات كثيرة للمتأملين، لعل هذه العجالة تأتي على بعضها في النقاط التالية:
لِمَ كانت الهجرة؟ ولِمَ لمْ تكن مكة وهي مهبط الوحي، وحرم الله الآمن، وفيها بيته العتيق، هي التي تنطلق منها الدعوة إلى الخافقين وتكون هي عاصمة الإسلام؟ والإجابة نعم، لقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم حريصاً على ذلك، ولو شاء الله تعالى ذلك لكان، ولجعل أعناقهم لنبيه خاضعين، لكنه سبحانه وتعالى أراد أن يكون خليله وصفيه من خلقه جارياً على سَنَن من كان قبله ممن أُوذوا وهاجروا وجاهدوا وقاتلوا وقتلوا، حتى يكون نصره جارياً على قانون البشر، ومكةُ ليست دار قتال، فهي الحرم الآمن للبشر والشجر والحجر والحيوان، من يوم أن خلق الله السماوات والأرض، ولم تحل لأحد قط، وإنما أحلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح ساعة من نهار، ثم عادت حرمتها كما كانت قبل، وللدعوة معترك بين الحق والباطل لابد أن يتم كما جرى لمن كان قبله من الأنبياء الذين قال الله تعالى عنهم: {أُولَئِكَ الذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}، فكان لابد من بلد آخر يصلح لأن تنطلق منه هذه الرسالة الخاتمة الفاتحة. لِمَ لم يُسرَ برسول الله صلى الله عليه وسلم بالبراق وهو دابة الأنبياء، فقد كان يمتطيه إبراهيم يوم أن يأتي من الأرض المباركة لزيارة وديعته ولبناء بيت الله، وكما سرى به المصطفى لبيت المقدس؟
ولعل الإجابة عن هذا المعنى فيها خفاء، إلا أننا لو أدركنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت أفعاله كلها تشريعاً، ولو أنه أسري به بالبراق أو طويت له الأرض لفات الأمة تشريع كثير، وخير وفير، فمن أين كانت ستتعلم أهمية التخطيط المحكم للمهام، وأن الأمور العظيمة لا تتم بعفوية؟ ومن أين ستتعلم كتمان الأمور والأخذ بالأسباب المادية من زاد وتعمية وتورية، والمعنوية كالتوكل على الله والثقة به سبحانه؟ ولم كانت الهجرة إلى المدينة ولم تكن إلى غيرها من القرى والقبائل العربية الأخرى؟ والدارس لتأريخ الجزيرة العربية لا يمتري أن يثرب التي كانت إليها الهجرة، لا توازى بها القرى تحصيناً ومَنَعة وكفاية ذاتية، ولا بقبائلها القبائل، فهم الذين قد تمرسوا على الكر والفر، وخاضوا غمار الموت سنين عدداً، فهم الصبر عند الحرب، الصدق عند اللقاء، الذين إن بايعوا وفوا، وإن عاهدوا أتموا ولا يقيلون ولا يستقيلون، هم صفوة العرب العاربة، جمعهم الله في يثرب لهذه المهمة وهم لا يشعرون، وأيقظهم بيهودَ الذين كانوا يتربصون خروجه ليكونوا أسعد الناس به، فلما جاءهم ما عرفوا حسدوه وكفروا به، فلم تكن بلدة أحق بهذا الشرف من طيبة، ولا أحد أجدر بحماية هذه الدعوة من الأوس والخزرج. هذه الهجرة التي هي تأريخنا وسبب وصول الإسلام إلينا، لا ينبغي أن تمر علينا ونحن عنها في غفلة معرضون، فقد أشار إليها القرآن بأنها فاتحة التأريخ، ونافذة النور الإلهي للعالمين، فلا نكنْ عن حدثها - تفقهاً وتذكراً وتأريخاً - غافلين، فالأمم العظيمة لا تغفل تأريخها، ولا محطات تفوقها ونجاحها، ولا تتنكر لأمجادها، فيا ليت قومي يعلمون.
كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .