ذئب متربص
أقف على جرف عال.. وفي قعر الوادي.. ظلي.. يناديني، جاءت مجموعة عباس كياروستامي «ذئب متربص.. الفن السابع /151/ 2008 ــ ترجمة ماهر جمّو» مفاجأة سارة في الأوساط السينمائية والشعرية، وهي مجموعة قصائد تمتزج فيها صور سينمائية بصور شعرية، تشير إلى طبيعة موضوعات أفلامه الصعبة: ساهيا.. ألج بيتا.. لا يتقد فيه سراج.. أنوي الخروج.. من حفرة كبيرة.. خطوة خطوة.
في 2 فبراير 1979 أنهى آية الله الخميني أعوامه الـ14 في المنفى، وعاد إلى إيران منتصراً. وفي 19 يناير 1981 استطاعت الثورة أن تطيح بالنظام البهلوي، واختار معظم الإيرانيين دستوراً خاصاً. ومنذ أواخر 1979 أصبح عباس كياروستامي، شأنه شأن آلاف المثقفين والفنانين، يعيش في هذه الجمهورية. زورق بلا شراع.. بحر بلا رياح.. سماء بلا قمر.
وُلد كياروستامي وترعرع في العصر المجيد للحداثة الشعرية الفارسية وكان تاريخ إبداعها الشعري وراء نشأته البصرية للواقع، واستطاع أن ينهل في أفلامه من شعرها الحداثي. وحين لفت إيران حماسة ثورية هائلة شغلت كياروستامي قضية مختلفة تماماً، وكان برنامجه يختلف عن وعود الثورة وآلامها، عن ثقافة الموت والإنكار، عن الميتافيزيقيا والصوفية.
هذا التعب.. ليس تعب اليوم.. إنه ميراث.. وصلني من أسلافي.
في أواسط الثمانينات شُغل المشهد السياسي الإيراني بوقائع شديدة القسوة، إذ احتدمت الحرب الإيرانية العراقية، وفي جو الحرب وأزمة الرهائن، أقر منظمو الجمهورية الإسلامية دمج جميع منظمات المجتمع المدني في جهاز الدولة، وفرض مجموعة قواعد للسلوك تعود إلى العصر الوسيط. وفي ردة فعل على عمليات مجاهدي خلق سحقت كل أنواع المعارضة، وسقط قادة ثوريون عديدون من بينهم الرئيس بني صدر. وفي مثل هذه الأحداث الملتهبة انصرف كياروستامي يصنع سينما «سياسية» بعيدة عن السياسة، ويحقق باستمرار رؤيا تتيقن من الحياة، وتعانق الوجود البهيج على الأرض.
السينما الإيرانية إلى؟
في كتاب المؤرخ والمنظر حميد دباشي عن السينما الإيرانية «لقطة مقربة/الفن السابع (56/2003)-ترجمه عارف حديفة» يقدم قراءة نقدية وعرضاً تاريخياً، غنياً وموّثقاً، لماضي وحاضر المجتمع والسينما الإيرانية. ويتجاوز تلك القراءة المألوفة للسينما الإيرانية، التي تسقط في فخ الدعاية، وتستحسن أفلام سينما المؤلف أو الأفلام الفنية، التي تتقبل الواقع القائم، والتي هي أكثر واقعية من الواقع، كما أنها غير ذات صلة بالناس: لا تنجح في العروض المحلية، وتعجز عن تشكيل الفعالية التاريخية لشخصياتها، كما يجد أن أفضلها تجاوز مركز ارض المجتمع الراهن إلى العالمية، وأن صانعيها الجدد تجاوزوا ذواتهم «فهم، من جهة، شاهدوا في الثورة أب البلاد يموت ميتة مهينة، كما شاهدوا جدهم يرسل إخوانهم ليهلكوا بالملايين في الحرب، وهم، من جهة أخرى، لم يعودوا ينصاعوا في انتفاضتهم المجيدة، لا إلى أي أب، ميتاً كان أم حياً، لأنهم أصبحوا أبناء السماء والأرض».
إن كياروستامي الذي ورث موهبة غنائية ترى الجمال والحياة وسط حتمية وجود لا يطاق، هو أول شاعر بصري وضع سينما إيران الوطنية على خريطة العالم.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه