أبواب
جغرافيا الكتابة
يقول الروائي مارغو يوسا في خطابه الذي ألقاه أمام لجنة «نوبل» بمناسبة حصوله على جائزة نوبل للآداب: «تعلمت القراءة في سن الخامسة، في صف الراهب جوستنيانو، بكوليج لاسال، كوشبامبا (بوليفيا). هذا أهم ما حصل لي في حياتي. وهآنذا بعد نحو 70 عاماً مازلت أتذكر بوضوح تام كيف أن هذا السحر، الذي هو أن تترجم إلى صور كلمات الكتب، قد أغنى وجودي، وكسر حواجز القضاء والزمن، بأن سمح لي بأن أقطع مع القبطان نيمو في غواصته 20 ألف مكان تحت البحار (رواية جول فيرن)، وأن أصارع إلى جانب أرتنيان، وأتوس، وبورتوس، وأرامس، ضد المكائد التي هددت الملكة زمن الداهية ريشيليو، أو أن أتسلل في أحشاء باريس، وقد صرت جاناً، فالجان (بطل رواية البؤساء لفيكتور هوغو) حامل على ظهره جسد ماريوس الهامد. لقد حولت القراءة الحلم إلى حياة، والحياة إلى تهيؤ، لما وضعتْ عالم الأدب في يد الولد الذي كنت».
إلى هذا الحد قادرة القراءة الأدبية والإبداعية على كسر الطوق الجغرافي العالمي، والى هذا الحد قادرة القراءة على كسر الحد الجغرافي للدولة السياسية العالمية، التي استطاعت أن تقطرن الكاتب، وتجعله يخضع لمقتضياتها السياسية، ليتحول الى مبدع تنتهي صلاحيته الإبداعية حال خروجه من الحدود السياسية لبلده.
إن الكتابة التي تتوخى الارتقاء بالإنسان وارتقاء بمستوى تحضّره ورفعة تكوين رؤاه، لم تكن في أي يوم من الأيام رهن التحديد القطري للدولة، بل ظلت قادرة على عبور الدول والقارات والمحيطات لتستقر بين يدي القارئ بغض النظر عن مرجعيته.
ففي التاريخ العربي الإسلامي، استطاعت حالة التحضر العربية الإسلامية أن تصهر العديد من الهويات القطرية، وحتى الهويات الدينية والطائفية في بوتقتها، بحيث أصبح أديب هذه الحضارة يسمى بعصر مرحلة سياسية كاملة، كأن نقول هذا من شعراء العصر الجاهلي، أو من شعراء العصر العباسي، أو من شعراء العصر الأموي أو حتى من النجوم الإبداعية التي سطع نورها خلال القرن الرابع الهجري.
وحتى في عصرنا الحديث كان يصعب على القارئ التعامل مع غوركي وتشيخوف وشليخوف ودستوفيسكي باعتبارهم من روسيا، والأمر ذاته ينطبق على سارتر وكامي وبودلير ورامبو باعتبارهم فرنسيين، والتعامل مع والت وايتمن وهمنجواي وفوكنر باعتبارهم أميركيين. والأمر ذاته ينطبق أيضاً على كتاب أميركا اللاتينية بمن فيهم مارغو يوسا أيضاً.
إن معظم هؤلاء الكتاب اخترقوا الحاجز الصوتي لحدود دولهم السياسية وامتلكوا ذاك الإيقاع العالمي المحبب، بحيث تحولوا إلى قيمة تخص جغرافية العالم أجمع. قيمة تجعلك حينما تقرأ نتاجاتهم الإبداعية تحلق خارج كل الحدود السياسية التي خنقت العالم وأهدرت دم بشره بالحروب المتتالية.
إن للكتابة جغرافيتها ذات النكهة الخاصة، والكيمياء الخاصة التي يستعصي فهمها على الكثير من القراء والمبدعين.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .