الحرية الدينية

كثر حديث الناس عن الحرية الدينية من غير ضابط ولا رابط، فكل يتحدث عنها بمفهومه اتباعاً لهواه، فيختلف تعريفها باختلاف المقاصد والاتجاهات، حتى غدا أشبه بحديث خُرافة، فلا يدري السامع من يصدق، ولعل كثيراً من الناس يرون أنه لا حرية دينية في قاموس الحريات المعاصرة. والواقع أن الإسلام هو الذي جاء بالحرية الدينية، وهي أقدس الحريات لديه؛ فمبدؤه العظيم يقوم على أن {لَا إِكْرَاهَ فِي الدينِ قَدْ تَبَينَ الرشْدُ مِنَ الْغَي} فقبل الدخول فيه {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}، فالدين لله سبحانه وهو غني عن العالمين، وأراد الله تعالى أن يقوم على الإقناع، من غير إكراه ولا إخضاع، فمن اقتنع به تفتح له أبواب السماء، ويصل به إلى سعادة الدنيا وملكوت الآخرة، ومن لا، فله ما اختار، وبين يديه عذاب شديد. فلذلك كان من أبرز مناهجه للإقناع الحوار البناء، والدعوة الصادقة، بالحكمة البالغة، ليصل خير الله لعباده، فإنه نوره في الأرض، وبه الفوز عند العرض، وهو قبل ذلك منهج حياة، وعلى أهله أن يقوموا بإبلاغه للعباد بتلك الطريقة، كل بحسب وسعه وعلمه، وكل عاقل عليه أن يسمع ويعي ويوازن بين الموروثات، والآيات البيّنات، وعندئذ يختار ما يصلحه في حاله ومآله، وإلا فإنه يكون قد أضاع نفسه، وفرّط بما يستحقه من الخير. ذلك هو منهج الإسلام الذي علّمه الله تعالى نبيّه المصطفى صلى الله عليه وسلم، الذي كان حريصاً جد الحرص على هداية الناس، ليخرجهم من غضب الله ومقته، إلا أن الله تعالى شاء لعباده التنوع؛ ليكونوا فريقين: فريقاً في الجنة وفريقاً في السعير، وقال له: {إِنْ نَشَأْ نُنَزلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السمَاءِ آيَةً فَظَلتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} وبفضل هذه المساحة الواسعة من الحرية والفكر؛ دخل الناس في هذا الدين الخاتم أفواجاً وأرسالاً، في أرجاء الأرض الواسعة، وأصقاعها المختلفة. ولم يُقِر أحدا من البشر أن يكون وصياً على الناس يمنعهم من التفكير في ما يصلحهم، ويحول بينهم وبين الهدى الذي جاءهم؛ لأن ذلك استعباد للبشر، وكتم للحقائق، وتحجير للعقول، فشرع قتال من كَبت حريات الناس ومنعهم من الهدى، ليكون لكل واحد الاختيار من غير اضطرار. كان ذلك هو منهجه حتى مع أتباعه في مواطن الاجتهاد منه، فرباهم على الاجتهاد، وأرشدهم إلى الاستنارة بإشعاع العقل، ونور القلب والفكر. فأين هذا من مزاعم مدّعي الحرية في الشرق والغرب الذين يريدون كبت حريات شعوبهم فيمنعونهم من التنوير والتفكير، ليكونوا تبعاً لهم على علاتهم من غير فكر ولا روية، حتى وصل بهم إلى عقد مؤتمرات لحماية بلدانهم من الإسلام، وكأن الإسلام عدو كاسح يريد أن يغتالهم ويستحلّ بيضتهم، وما علموا أنه دين موسى وعيسى ومن كان قبلهما من الأنبياء والرسل! فأين الحرية التي يدغدغون بها مشاعر الناس؟ أهي في الجمود؟ أم في الجحود؟ أم العكوف على التلمود من غير رأي محمود؟ ولا سبيل لنا عليهم، فلهم أن يقرروا لأنفسهم ما شاءوا، إلا أن عليهم أن يعلموا أن هذا التوجه يتنافى مع مبدأ الحرية الدينية، وهو ضرب من ضروب الكهنوتية التي لا يجوز أن تبقى عليها الإنسانية. وسيبقى الإسلام خفاق الراية، يضرب بجرانه في الأرض الطيبة والنفوس المطمئنة، لا يضره من خذله، ولا يكتمه من علمه.

والله يقول الحق وهو يهدي السبيل

كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .

الأكثر مشاركة