الثورة القرائية للرواية
من يمعن النظر في النصوص الروائية الرائجة هذه الأيام، سيكتشف ولو بقليل من الجهد، أن الرواية فقدت بساطة تخليقها، وبراءة تشكلها، وأن الروايات الرائجة بمجملها صارت تعتمد ديدن فضيحة المسكوت عنه اجتماعياً، والعمل على تثويره في رواية. وبهذا التشكل الطارئ على الرواية غدت الكتابة الروائية تنهل من علوم تنظيرية ومعرفية جافة هي بعيدة كل البعد عن تلك الطراوة الوجدانية التي ظلت تتحلى بها الكتابة الروائية.
إن مثل هذه الإشكالية التي اجترحتها الرواية الرائجة، قد أوقعت الرواية في قراءات تأويلية متعددة الأوجه، وإن هذا التعدد التأويلي ليس لمصلحة الرواية عموماً، فأن تشرع بقراءة رواية وعندما تنتهي منها وتسأل نفسك، أو الراوي«لا فرق»: ماذا لو كتبت هذه الرواية كبحث توثيقي ومعرفي؟ أو ما الذي يمكن أن تتضرر منه الرواية لو قمنا بحذف أسماء الشخوص والأماكن وقدمنا النص كبحث معرفي؟ والغريب أنك ستجد الإجابة بكاملها لمصلحة توقعاتك.
فعلى سبيل المثال لا الحصر لو قمنا بتحويل الرواية الذائعة الصيت «شيفرة دافنشي» للروائي دان براون، إلى بحث تنقيبي في الأثريات الخاصة بالمسيحية، والتباسات شخصية مريم المجدلية في حياة المسيح، وفرسان الهيكل، وقمنا بحذف البطل وحركاته المباحثية في متحف اللوفر، وبقية شخوص الرواية، فإننا سنحصل على نص معرفي أغنى بكثير من الذي قدمه براون.
وفي الإطار ذاته لو قمنا بحذف الأسماء وحتى الأماكن الخاصة برواية «عزازيل» للروائي المصري يوسف زيدان، واكتفينا بدراسة الآثار المدمرة التي تركتها المسيحية في الحضارة اليونانية في مدينة الإسكندرية، واستقبلنا العمل على اعتبار أنه محاولة تاريخية جادة للإضاءة على واقع الديانة المسيحية في القرن الرابع الميلادي، والمذاهب والطوائف التي كانت تتشكل آنذاك، لوجدنا أننا أمام بحث معرفي وتوثيقي هو أفضل من الرواية بكثير.
والروايات التي يمكن استعمالها مثالاً في هذا الصدد كثيرة جداً، ولكن المساحة المتاحة لهذه المقالة لا تسمح. ونحن نقول هذا لنضع اليد على جرح الرواية الجديد، هذه الرواية التي تركت مكانها الأساس وأخذت تذهب نحو بعض العلوم الاجتماعية، والى بعض التواريخ النائمة كي تعيد كتابتها بأسلوب روائي.
لكن من قال إن البحث المعرفي الجاف في لغته وتفاصيله وإناراته قادر على أن يمتلك تلك الجاذبية التسويقية في مغنطة القراء واقتيادهم نحو القراءة مثل الرواية، التي تظل محشوة بالتضاريس القرائية والاغوائية الخاصة بها ؟
الغريب أن الجهات القائمة على منح الجوائز الروائية السنوية، صارت تسوّق مثل هذا النوع الروائي القائم على أحداث الفضيحة التاريخية لأي مجتمع تدور في مناخاته الرواية، على اعتبار أن الأبحاث التاريخية، المعرفية منها والأكاديمية، غدت غير قادرة على الإعلان عن المسكوت عنه تاريخياً في بطن هذه المجتمعات.
إن ما يحدث هو ثورة قرائية للرواية عموماً، ولكنها ثورة لا تخلو من الختل والمراوغة للوصول إلى أهداف هي أبعد من ذلك بكثير.
لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه .