رجل العام 2010

لو سألتني صحيفة أو مجلة أن أختار رجلاً للعام 2010 لاخترت الرئيس التشيلي سباستيان بانييرا، دون تردد، مع إعجابي الكبير، وامتناني الشديد لجوليان أسانج، صاحب موقع «ويكيليكس» على ما أسداه لي كمواطن عربيّ من معروف لن يُنسى في كشف مستور كل من كان يستمتع في العتمة، ويظنّ أنْ لن يراه أحد.

أختار الرئيس التشيلي وقد كان حاضراً فعلاً طوال شهرين في قضية إنقاذ 33 عاملاً في منجم سان خوسيه كانوا في عزلة على عمق 700 متر، بعد انهيار في طبقاته. أختار فيه روح الزعيم التي تنبض بالناس، وتواجه معهم الأزمات، دون لغة مدججة بالإنشاء والبلاغة التي تصلح فقط لعناوين الصحافة الفقيرة، ولا تقول شيئاً سوى رنين الكلمات المكتوبة بالخط العريض، تلك الكلمات التي لا تكلّف شيئاً، ولا تفيد أحداً، ولا تحلّ مشكلة. أختاره وقد كان مع شعبه ولشعبه وأثبت له أنه جدير بتمثيله، وأنه قادر على صناعة النموذج الصعب من الزعماء الذين ينتقيهم التاريخ ليحفظهم في ذاكرته إلى الأبد.

أختار في سباستيان بانييرا القائد الذي وقف مع المسؤولين وعمال الإنقاذ في موقع المنجم يتابع التفاصيل ويقترح الحلول، ويجربها، وأنحاز للإنسان الذي عاش أياماً عصيبة فعلاً مع عائلات العمّال، وقاسمهم القلق والحزن، قبل الخبز والطعام. أحتاج إلى هذا الطراز الفريد من القادة، حيث لا شوارع يحتشد فيها مؤيدون لموكب رجل يكتفي بالتلويح والابتسام، وهو يمر مسرعاً بين شعبه، تحفّه الحراسة المشددة.

أختار البطل الأميركي الجنوبي، الخبير الاقتصادي والسياسي، والبرلماني، والمنتخب من شعبه، حيث البطولة على غير ما نعرف، وحيث لا تعرفنا البطولة إلا قليلاً، وإن عرفتْ فعلى مقاييس عربية، لا وزن لها في موازين الأمم التي تؤمن بالحياة، لا الموت، وتقيم شأناً للحاضر والمستقبل، ولا ترى في الماضي أكثر من زمن مضى.

وضع الرئيس التشيلي معايير للقيادة والزعامة والبطولة في أكثر جمالياتها وضوحاً، ليس فقط في شخصه وحضوره الإعلامي النافذ والصادق والبسيط، وإنما في بلاده التي كانت أنظار الملايين من كل أجزاء العالم متجهة إليها، وكانت فرصة للإعلام ليقدم مزيداً من التقارير والأفلام الوثائقية والمواد الإخبارية عنه، وقد أصبح مشاهدوه متلهفين لمعرفة مصير العمّال المحاصرين، ولن ينسى العالم صورة ذلك الرئيس بعينيه الدامعتين، وهو يحتضن الناجين طوال يومين كاملين، وهم يصعدون في كبسولة الإنقاذ، كما سيتذكر العالم صوراً نادرة لمسؤولين وشركات وجمعيات وهيئات إنسانية تشيلية عاشت الأزمة في كل لحظة، وكتبت قصة حقيقية عن بطولة شعب، ولا أروع.

سيتذكر العالم رجلاً حشد الملايين من سكان تشيلي، ومعهم حكومتها ومؤسساتها وإعلامها وراء حياة 33 عاملاً محاصراً تحت انهيارات المنجم. ولن تنسى الشعوب التي لم تألف نمطاً في الزعامة مثل سباستيان بانييرا صورته وهو يتلهّف عند خروج أول الناجين من تحت الأرض. لن تنسى ذلك الشعوب التي تعرضت لزلازل وفيضانات وكوارث طبيعية في البر والبحر، وكان زعماؤها يكتفون بإرسال المسؤولين إلى المستشفيات لعيادة الضحايا، ويهددون بمحاسبة المقصرين، بعد التحقيق الذي يُلقي اللوم غالباً على تقلبات المناخ.. وما أدراك ما المناخ..!

baselraf@gmail.com

لقراءة مقالات سابقة للكاتب يرجى النقر على اسمه . 

الأكثر مشاركة